وأحكامه، أو بمعاينة عينه على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة، فيبرز كل من الحسنات والسيئات بما يناسبها من الصور الحسنة والقبيحة، أو يتعظ؛ أي: يقبل التذكير والإرشاد الذي بلغ إليه في الدنيا، ولم يتعظ ولم يقبله في الدنيا، فيتعظ به في الآخرة، فيقول: يا ليتنا نرد، ولا نكذب بآيات ربنا، وهذا الاتعاظ يستلزم الندم على تقصيراته، والندم توبة، لكن لا توبة هناك لفوات أوانها.
وقوله: ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾؛ أي: ومن أين له العظة، وقد فاته أوانها؟، اعتراض بين البدل والمبدل منه، جيء به لإفادة أنه ليس بتذكر حقيقة؛ لخلوه عن الفائدة بعدم وقوعه في أوانه، و ﴿أَنَّى﴾: خبر مقدم لـ ﴿الذِّكْرَى﴾، و ﴿لَهُ﴾: متعلق بما تعلق به الخبر؛ أي: ومن أين يكون له التذكر، والاتعاظ، وقد فات أوانه، وقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: ومن أين له منفعة الذكرى، وبه يرتفع التناقض الواقع بين إثبات التذكر أولًا، ونفيه ثانيًا.
٢٤ - وقوله: ﴿يَقُولُ﴾ الإنسان يومئذٍ ﴿يا﴾ أيها الحاضرون ﴿لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ بدل اشتمال من ﴿يَتَذَكَّرُ﴾، أو استئناف وقع عن سؤال نشأ عنه، كأنه قيل: ماذا يقول عند تذكره؟ فقيل: يا ليتني عملت لحياتي هذه - يعني: لتحصيل الحياة الأخروية التي هي حياة نافعة دائمة غير منقطعة - أعمالًا صالحةً أنتفع بها اليوم، على أن اللام للتعليل، ويحتمل كون اللام للتوقيت؛ أي: يا ليتني قدمت أعمالًا صالحة تنفعني اليوم وقت حياتي الدنيوية، ويجوز أن يكون المعنى: قدمت عملًا ينجيني من العذاب، فأكون من الأحياء، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (١٣)﴾.
وحاصل معنى قوله: ﴿يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: يوم إذ حدثت (١) تلك الحوادث والدواهي تذهب الغفلة عن الإنسان، ويتذكر المرء ما كان قد فرط وقصر فيه، وعرف أن ما كان فيه كان ضلالًا، وأنه كان يجب أن يكون على حال خير مما كان عليها، ثم بين أن هذه الذكرى لا فائدة فيها، فقال: ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾؛ أي: ومن أين لهذه الذكرى فائدة، أو ترجع إليه بعائدة، وقد فات الأوان، وحمَّ القضاء.

(١) المراغي.


الصفحة التالية
Icon