النعيم المقيم ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾ وهذا ما أشار إليه بقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)﴾ إلى آخر السورة؛ أي: خلقنا جنس الإنسان حال (١) كونه كائنًا في أحسن تقويم وتعديل، وقال الواحدي: قال المفسرون: إن الله خلق كل ذي روح مكبًا على وجهه إلا الإنسان خلقه مديد القامة، يتناول مأكوله بيده، ومعنى التقويم: التعديل، يقال: قام إذا انتصب، وقام الأمر اعتدل، كما ستقام، وقومته، عدلته، كما في "القاموس"، والتقويم (٢): تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون عليه في التأليف والتعديل، وعن يحيى بن أكثم القاضي أنه فسر التقويم بحسن الصورة، فإنه حَكَى أنَّ مَلِك زمانه خلا بزوجته في ليلة مقمرة، فقال لها: إن لم تكوني أحسن من القمر، فأنت كذا، فأفتى كل العلماء بالحنث إلا يحيى بن أكثم قال: لا يحنث، فقالوا: خالفت شيوخك، فقال: الفتوى بالعلم، ولقد أفتى من هو أعلم منا، وهو الله تعالى قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)﴾ فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، وسيأتي قريبًا بسط هذه القصة.
وفي "المفردات": هو إشارة إلى ما خص به الإنسان من بين الحيوان من العقل والفهم، وانتصاب القامة الدال على استيلائه على كل ما في هذا العالم، والمعنى: ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾: كائنًا في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورة ومعنى، حيث يراه تعالى مستوي القامة، متناسب الأعضاء، حسن الشكل، كما قال: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾؛ أي: صوركم أحسن تصوير. قال (٣) ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيًا عالمًا قادرًا مريدًا متكلمًا سميعًا بصيرًا مدبرًا حكيمًا، وهذه صفات الرب سبحانه، وعليها حمل بعض العلماء قوله - ﷺ -: "إن الله خلق آدم على صورته"؛ أي: على صفاته التي ذكرناها هنا. قلت: وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وقوله: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ وعليه يدور معنى قوله - ﷺ -: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" فإن الإنسان مظهر الجلال والجمال والكمال.
وحاصل ما في هذا المقام: أنه سبحانه وتعالى أقسم بالأمور الأربعة السابقة

(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.


الصفحة التالية
Icon