من العقل والفكر ما يكون مذكرًا ومنبهًا، ونصبنا له الدلائل على حسن الخير، وأرشدناه إلى ما في الشر من هفوات وعيوب، ثم أقدرناه على أن يسلك أي الطريقين شاء بعد أن آتيناه قوة التمييز والقدرة على الاختيار والترجيح، ليسلك الطريق التي أراد منهما، فليكن نجد الخير أحب إلى أحدكم من نجد الشر، فمن نازعته نفسه، واتجهت إلى نجد الشر.. فليقمعها بالنظر في آيات الله، والتدبر في دلائله؛ ليعلم أن ذلك الطريق مظلم معوج يهوي بصاحبه إلى طريق الردى ويوقعه في المهالك، وإنما (١) سماهما الله نجدين للإشارة إلى أنهما واضحان كطريقين عاليين يراهما ذوو الأبصار، وإلى أن في كل منهما وعورة يشق معها السلوك، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها، وفي ذلك إيماء إلى أن طريق الشر ليست بأهون من طريق الخير، بل الغالب أن طريق الشر أصعب وأشق وأحوج إلى بذل الجهد حتى تقطع إلى النهاية والتوصل إلى الغاية.
١١ - ﴿فَلَا اقْتَحَمَ﴾؛ أي: فهلا سلك ذلك الإنسان المغرور ﴿الْعَقَبَةَ﴾؛ أي: طريق العقبة التي يشق عسلوكها، والسير فيها على أكثر الناس التي هي مجاهدة النفس والشيطان والهوى، وسلوك طريق الخير والهدى؛ ليكون شاكرًا لربه على هذه النعمة، وقد ضرب الله سبحانه العقبة مثلًا لهذا الجهاد؛ لأن الإنسان يريد أن يرقى من عالم الحس عالم الأشباح إلى عالم الأنوار والأرواح، وبينه وبين ذلك عقبات من ورائها عقبات، وسبيل الوصول إلى غايته هذه هي فعل الخيرات، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة الحسية ﴿فَلَا﴾ بمعنى: هلا للتحضيض؛ أي: الذي أنفق ماله في عداوة النبي - ﷺ -. هلا أنفقه لاقتحام العقبة ومجاوزتها، فيأمن من مهالك الدارين، ولكن كون ﴿لا﴾ بمعنى هلّا لم يُسمع وإن ذكره الجلال.
قال الفراء والزجاج (٢): ذكر سبحانه هنا ﴿لا﴾ مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد ﴿لا﴾ مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يُعيدوها في كلام آخر، كقوله: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١)﴾ وإنما أفردها هنا؛ لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قائمًا مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن، قال المبرد وأبو علي الفارسي: إن ﴿لا﴾ هنا بمعنى لم؛
(٢) الشوكاني.