الكريم في ليلة الشرف، ثم أنزلناه بعد ذلك منجمًا في ثلاث وعشرين سنة بحسَب الحوادث التي كانت تدعو إلى نزول شيء منه تبيانًا لما أشكل من الفتوى فيها، من عبرة بما يقتص فيه من قصص وزواجر، ولا شك أن البشر كانوا في حاجة إلى دستور يبين لهم ما التبس عليهم من أمر دينهم ودنياهم، ويوضح لهم أمر النشأة الأولى، وأمر النشأة الآخرة؛ لأنهم كانوا أعجز من أن يفهموا مصالحهم الحقة حتى يستنوا لأنفسهم من النظم ما يغنيهم عن الدين والتدين وحوادث الكون التي نراها رأي العين كفيلة بأن تبين وجه الحق في ذلك، فإن من بدء الخليقة يُبدِئون ويعيدون ويصححون ويراجعون في قوانينهم الوضعية، ثم يستبين لهم بعد قليل من الزمان أنها لا تكفي لهدي المجتمع، والأخذ بيده إلى موضح الرشاد، ومنعه من الوقوع في مهاوي الزلل، ومن ثم قيل: لا غنى للبشر عن دين ولا عن وازع روحي يضع لهم مقاييس الأشياء، وقيمها بعد أن أبان لهم العلم وصفها وخواصها، كما لا غنى له عن الاعتقاد في قوة غيبية يلجأ إليها حين يظلم عليه ليل الشك، وتختلط عليه صروف الحياة وألوان مآسيها.
ثم أشار إلى أن فضلها لا يحيط بها إلا هو، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢)﴾؛ أي: ولم تبلغ درايتك وعلمك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها، وفي هذا إيماء إلى أن شرفها مما لا يحيط به علم العلماء، وإنما يعلمه علام الغيوب الذي خلق العوالم، وأنشأها من العدم.
٣ - ثم أوضح مقدار فضلها من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول منها قوله: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾؛ أي: قيامها والعبادة فيها. ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾؛ أي: من صيام ألف شهر وقيامها ليس فيها ليلة القدر حتى لا يلزم تفضيل الشيء على نفسه، فـ ﴿خَيْرٌ﴾ هنا للتفضيل، أي: أفضل وأعظم قدرًا، وأكثر أجرًا من تلك المدة، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، وتخصيص الألف بالذكر: إما للتكثير؛ لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها، ولا تريد حقيقتها، كما في قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾، أو لما روي أنه - ﷺ - ذكر رجلًا من بني إسرائيل اسمه: شمسون لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فتعجب المؤمنون منه، وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأُعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك المغازي، رواه ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: إن الرجل فيما مضى


الصفحة التالية
Icon