يفك المرء نفسه رقبة نفسه من عذاب الله تعالى، بأن يشتغل بالأعمال الصالحة حتى يصير بها إلى الجنة، ويتخلص من النار، وهي الحرية الوسطى، وأن يفك رقبة القلب من أسر النفس وقيد الهوى، وتعلق السوى، وهي الحرية الكبرى، فيكون قوله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ...﴾ إلخ من قبيل التخصيص بعد التعميم إشارة إلى فضل ذلك الخاص بحيث خرج به من أن يتناوله اللفظ السابق مع عمومه.
قال بعضهم: تقديم العتق على الصدقة يدل على أنه أفضل منها، كما هو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وفي الحديث: "من فك رقبة.. فك الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار".
قال الراغب: فك الإنسان غيره من العذاب إنما يحصل بعد فك نفسه منه، فإن من لم يهتد ليس في قوته أن يهدي، وفك الرقبة من قبيل فك النفس؛ لأنه من الأعمال الصالحة التي لها مدخل عظيم في فكها. وقرأ النحويان (١) أبو عمرو والكسائي وابن كثير: ﴿فَكَّ﴾ فعلًا ماضيًا ﴿رقبةً﴾ نصبًا على المفعولية، وهكذا قرؤوا: ﴿أَطْعَم﴾ فعلًا ماضيًا ﴿مِسْكِينًا﴾ وما بعده نصبًا على المفعولية، وقرأ باقي السبعة: ﴿فَكُّ﴾ مرفوعًا ﴿رَقَبَةٍ﴾ مجرورًا ﴿أَوْ إِطْعَامٌ﴾ بالرفع معسوفًا على ﴿فَكُّ﴾ على أنهما مصدران، وجر ﴿رَقَبَةٍ﴾ بإضافة المصدر إليها، فعلى القراءة الأولى يكون الفعلان بدلًا من ﴿اقتَحَمَ﴾، كأنه قيل: فلا فك ولا أطعم، وقرأ علي وأبو رجاء كقراءة ابن كثير إلا أنهما قَرآ: ﴿ذا مسغبة﴾ بالألف، وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضًا: ﴿أو إطعام في يوم ذا﴾ بالألف، ونصبـ ﴿ذا﴾ على المفعولية؛ أي: إنسانًا ذا مسغبة، و ﴿يَتِيمًا﴾ بدل منه أو صفة، وقرأ بعض التابعين: ﴿فك رقبة﴾ بالإضافة ﴿أو أطعمَ﴾ فعلًا ماضيًا، ومن قرأ ﴿فَكُّ﴾ بالرفع، فهو تفسير لاقتحام العقبة، والتقدير: وما أدراك ما اقتحام العقبة، ومن قرأها فعلًا ماضيًا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، بل يكون التعظيم المفهوم من الاستفهام للعقبة نفسها، ويجيء ﴿فَكَّ﴾ بدلًا من اقتحم. قاله ابن عطية.
والحاصل (٢): أنه سبحانه وتعالى أرشد إلى أن اقتحامها يكون بفعل صنوف من الخير، منها:

(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon