مفازة، وقال ابن جبير: لا يسمى أحد حنيفًا حتى يحج ويختن؛ لأن الله وصف إبراهيم عليه السلام بكونه حنيفًا، وكان من شأنه أنه حج وختن نفسه.
وقوله: ﴿حُنَفَاءَ﴾؛ إما حال من فاعل ﴿يعبدوا﴾ على قول من جوَّز حالين من ذي حال واحد، أو من الضمير المستكن في ﴿مُخْلِصِينَ﴾ على قول من لا يجوِّز ذلك، فتكون حالًا متداخلة.
وقوله: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ التي هي العمدة في باب العبادة البدنية، معطوف على ﴿يعبدوا﴾، وكذا ما بعده، وإقامتها: أداؤها في أوقاتها بشرائطها وأركانها وهيئاتها ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ التي هي الأساس في العبادات المالية، وإيتاؤها: صرفها إلى مستحقها عند محلها، قال في "الإرشاد" (١): إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة، فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا، فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها.
والمعنى: أي إنهم تفرقوا واختلفوا، وهم لم يؤمروا إلا بما يصلح دينهم ودنياهم، وما يجلب لهم سعادة في معاشهم ومعادهم من إخلاص لله في السر والعلن، وتخليص أعمالهم من الشرك به واتباع ملة إبراهيم الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة له، كما قال: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، وقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾، والمراد من إقامة الصلاة: الإتيان بها مع إحضار القلب لهيبة المعبود؛ ليعتاد الخضوع له، وبإيتاء الزكاة: إنفاقها فيما عيَّن لها في الكتاب الكريم من المصارف.
﴿وَذَلِكَ﴾ المذكور من عبادة الله تعالى وإخلاصها وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ﴿دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾؛ أي: دين (٢) الملة المستقيمة، قَدَّر الموصوف لئلا يلزم إضافة الشيء إلى صفته، وهي بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه، وصحة إضافة الدين إلى الملة باعتبار التغاير الاعتباري بينهما، فإن الشريعة المبلغة إلى الأمة بتبليغ الرسول إياها من قبل الله تسمى ملة باعتبار أنها تُكتب وتملى، ودينًا باعتبار أنها تطاع، فإن الدين الطاعة يقال: وإن له إذا أطاعه، وقال الكاشفي: أضاف الدين إلى القيِّمة وهي

(١) أبو السعود.
(٢) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon