منزلته في النفوس، وكان من الحق أن يفردوه بالتعظيم والإجلال والعبادة دون الأصنام والأحجار التي يدعونها، ثم وصف رب هذا البيت بقوله: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ﴾؛ أي: إنه هو الذي أوسع لهم الرزق، ومهد لهم سبله، ولولاه لكانوا في جوع وضنك عيش. ﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾؛ أي: وآمن طريقهم، وأورثهم القبول عند الناس، ومنع عنهم التعدي والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم، ولولاه لأخذهم الخوف من كل مكان، فعاشوا في ضنك وجهد شديد.
وإذا كانوا يعرفون أن هذا كله بفضل رب هذا البيت، فلم يتوسلون إليه بتعظيم غيره وتوسيط سواه عنده، مع أنه لا فضل لأحد ممن يوسطونه في شيء من النعمة التي هم فيها، نعمة الأمن ونعمة الرزق وكفاية الحاجة، وقال ابن الأسلت يخاطب قريشًا:
فقوموا فصَلُّوا ربكم وتمسحوا | بأركان هذا البيت بين الأخاشب |
فعندكمُ منه بلاء ومصدق | غداة أبي يكسوم هادي الكتائب |
كتيبتُه بالسهل تمشي ورحلة | على العادقات في رؤوس المناقب |
فلما أتاكم نصر ذي العرش رَدَّهم | جنود مليء بين ساق وحاجب |
فوَلَّوا سراعًا هاربين ولم يَؤُبْ | إلى أهله مجليش غير عصائب |
﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)﴾.
﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١)﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ ﴿إِيلَافِهِمْ﴾: بدل من ﴿إيلاف﴾ الأول بدل مقيد من مطلق، وهو مصدر مضاف إلى فاعله. ﴿رِحْلَةَ الشِّتَاءِ﴾: مفعوله؛ ﴿وَالصَّيْفِ﴾: معطوف على ﴿الشِّتَاءِ﴾، أو مضاف إلى مفعوله الأول؛ أي: إيلافنا إياهم رحلة الشتاء والصيف، وتمكيننا إياهم من رحلتين. ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ ﴿الفاء﴾: واقعة في جواب شرط محذوف تقديره: إن لم يعبدوا الله لسائر نعمه السابغة المترادفة عليهم، فليعبدوه لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، وهي نعمة سابغة أتاحت لهم الإتجار، وضمنت لهم ميسور الرزق،