وقال أبو مسلم (١): ﴿مَا﴾ في الأوليين بمعنى الذي، والمقصود المعبود، و ﴿مَا﴾ في الأُخريين مصدرية؛ أي: لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين، وقال ابن عطية: لما كان قوله: ﴿لَا أَعْبُدُ﴾ محتملًا أن يراد به الآن، ويبقى المستأنُف منتظرًا ما يكون فيه جاء البيان بقوله: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤)﴾ أبدًا وما حييت، ثم جاء قوله: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥)﴾ الثاني حتمًا عليهم أنهم لا يؤمنون به أبدًا، كالذي كشف الغيب، فهذا كما قيل لنوح عليه السلام: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ ولكن ﴿مَا﴾ هنا في قوم معينين، وقوم نوح عموا بذلك، لهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة وليس بتكرار فقط، بل فيما ذكرته. انتهى.
وقد ذكر النحاة: أن دخول لا على المضارع يراد به الحال، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو اهـ من "البحر".
وخلاصة معنى السورة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢)﴾؛ أي: قل لهم يا محمد (٢): إن الإله الذي تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده؛ لأنكم تعبدون من يتخذ الشفعاء أو الولد، أو يحل في شخص، أو يتجلى في صورة معينة، أو نحو ذلك مما تزعمون، وأنا أعبد إلهًا لا مثيل له ولا ند، وليس له ولد ولا صاحبة، ولا يحل في جسم، ولا تُدرك كنهه العقول، ولا تحويه الأمكنة، ولا تمر به الأزمنة، ولا يُتقرب إليه بالشفعاء، ولا تقدم إليه الوسائل، وعلى الجملة فبين ما تعبدون وما أعبد فارق عظيم وبون شاسع، فأنتم تصفون معبودكم بصفات لا يجمل بمعبودي أن يتصف بها.
﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣)﴾؛ أي: إنكم لستم بعابدين إلهي في أدعو إليه لمخالفة صفاته لإلهكم، فلا يمكن التوفيق بينهما بحال، وبعد أن نفى الاختلاف في المعبود نفى الاختلاف في العبادة من قبل أنهم كانوا يظنون أن عبادتهم التي يؤدونها أمام شفعائهم، أو في المعابد التي أقاموها لها، أو في خلواتهم، وهم على اعتقادهم بالشفعاء عبادة خالصة لله، وأن النبي - ﷺ - لا يفضلهم في شيء، فقال:

(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.


الصفحة التالية
Icon