٦ - ثم بيَّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان جني وإنسي، فقال: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ والجِنة - بالكسر - جماعة الجن، و ﴿مِنَ﴾ بيان للشيطان الموسوس على أنه ضربان جني وإنسي، كقوله تعالى: ﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ والموسوس إليه نوع واحد، وهو الإنس، فكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى، فشيطان الإنس يكون كذلك، وذلك لأنه يُلقي الأباطيل، ويُري نفسه في سورة الناصح المشفق، فإن زجره السامع يخنس ويترك الوسوسة، وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه، و ﴿مِنَ﴾ على هذا بيانية مشوبة بتبعيض؛ أي: بعض الجنة وبعض الناس.
قال في "الأسئلة المقحمة": من دعا غيره إلى الباطل، فإن تصوره في قلبه كان ذلك وسوسةً، وقد قال تعالى: ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ فإذا جاز أن توسوس نفسه جاز أن يوسوسه غيره، فإن حقيقة الوسواس لا تختلف باختلاف الأشخاص.
ويجوز أن تكون ﴿مِنَ﴾ متعلقة بـ ﴿يُوَسْوِسُ﴾ وتكون لابتداء الغاية؛ أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجن أنهم يعلمون الغيب ويضرون وينفعون، ومن جهة الناس كالكهان والمنجمين كذلك، ويجوز أن يكون قوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ بيانًا للوسواس، و ﴿النَّاسِ﴾ عطف على ﴿الْوَسْوَاسِ﴾ فلفظ ﴿شَرِّ﴾ مسلط عليه، كأنه قال: من شر الوسواس الذي يوسوس؛ وهو الجنة، ومن شر الناس، وعليه فالناس لا يصدر منهم وسوسة، وقيل: يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ومن الجنة والناس بتقدير العاطف كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس، وقيل: المراد بالناس الناسي، وسقطت الياء كسقوطها في قوله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ ثم بيَّن بالجنة والناس؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان، وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الإنس، وواحد الجنة: جني، كما أن واحد الإنس إنسي، وسيأتي بسط الكلام فيه، والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا يكون إلا بالمعنى الذي قد قدمنا، ويكون هذا البيان يذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة، وفي ختم (١) القرآن بهذه السورة

(١) روح البيان.


الصفحة التالية
Icon