قلت: لأن لكل منهما أثرًا في صلاح العالم، ولليل فضيلة السبق، وللنهار فضيلة النور، فقدم هذا تارة وهذا أخرى، من يقال: إنه قدم الليل في سورة أبي بكر وهي السابقة؛ لأن أبا بكر سبق له كفر، وقدم الضحى في سورة محمد؛ لأنه نور محض، ولم يتقدمه ذنب، ولم يفصل بين السورتين إشارة إلى أنه لا واسطة بين النبي - ﷺ - وأبي بكر رضي الله عنه.
فإن قيل: ما الحكمة في ذكر الضحى وهو ساعة من النهار، وذكر الليل بجملته؟
أجيب: بأن ذلك إشارة إلى أن ساعة من نهار توازي جميع الليل، كما أن محمدًا - ﷺ - يوازي جميع الأنبياء، وأيضًا الضحى وقت السرور، والليل وقت الوحشة، ففيه إشارة إلى أن سرور الدنيا أقل من شرورها، وأن غموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة، والليل ساعات اهـ "خطيب".
٣ - ثم ذكر جواب القسم بقوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ﴾ يا محمد؛ أي: ما تركك ربك يا محمد منذ اختارك ﴿وَمَا قَلَى﴾؛ أي: وما أبغضك منذ أحبك، وإنما قال: ﴿وَمَا قَلَى﴾ ولم يقل: وما قلاك، لموافقة رؤوس الآي، وقيل معناه: وما قلى أحدًا من أصحابك، ومن هو على دينك إلى يوم القيامة.
وقال أبو حيان: وحذف المفعول اختصارًا في ﴿قَلَى﴾، وفي: ﴿فَأوَى﴾، وفي: ﴿فَهَدَى﴾، وفي: ﴿فَأَغْنَى﴾؛ إذ يعلم أنه ضمير المخاطب، وهو الرسول - ﷺ -، وقوله: ﴿وَدَّعَكَ﴾ (١) من التوديع، وهو مبالغة في الوداع، وهو الترك؛ لأن من ودعك مفارقًا، فقد بالغ في تركك، والوداع وهو الإعلام بالفراق، وقال الراغب: أصل التوديع من الدعة، وهو: أن يدعو للمسافر أن يتحمل الله عنه كآبة السفر، وأن يبلغه الدعة والخفض، كما أن التسليم دعاء له بالسلامة، فصار ذلك متعارفًا في تشييع المسافر وتركه، وعبر به عن الترك في الآية.
والمعنى: ما قطعك ربك يا محمد قطع المودع، وما تركك بالحط عن درجة الوحي والقرب والكرامة، ففيه استعارة تبعية، وإشارة إلى أن الرب لا يترك المربوب، وقرأ الجمهور (٢): ﴿مَا وَدَّعَكَ﴾ بتشديد الدال من التوديع، كما مر، وقرأ
(٢) البحر المحيط.