الجنون هائمًا على وجهه ضالًا في الفلوات حيران لا يهتدي، تاركًا رفاقه على الطريق المستقيم ينادونه: عد إلينا وارجع، فلا يستجيب لهم لانجذابه وراء ما تراءى له بغير عقل ولا بصيرة. قال صاحب "الكشاف": وهذا مبني على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوي الإنسان وتختطفه، والغيلان تستولي عليه، كما قال تعالى: ﴿كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾. قال ابن عباس (١): مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه، فيصبح وقد ألقته في مهمهٍ ومهلكة، فهو حائر في تلك المهامه. وحمل الزمخشري ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾ على أنه من الهوى الذي هو المودة والميل؛ كأنه قيل: كالذي أمالته الشيطان عن الطريق الواضح إلى المهمه القفر، وحمله غيره كأبي عليّ على أنه من الهُويُّ بمعنى: السقوط؛ أي: ألقته في هوة ووهدة، ويكون استفعل بمعنى: أفعل، نحو استزل وأزل.
وقرأ السلمي والأعمش وطلحة (٢): ﴿استهوته الشيطان﴾ بالتاء، وإفراد الشيطان. وقال الكسائي: إنها كذلك في مصحف ابن مسعود انتهى. والذي نقلوا لنا القراءة عن ابن مسعود إنما نقلوه الشياطين جمعًا. وقرأ الحسن: ﴿الشياطون﴾، وتقدم، وقد لحن في ذلك، وقد قيل: هو شاذ قبيح، وفي مصحف عبد الله: ﴿أتينا﴾ فعلًا ماضيًا لا أمرًا، فـ ﴿إِلَى الْهُدَى﴾ متعلق به.
ثم أمره أن يرغب المشركين فيما يدعو إليه، لا فيما يدعونه إليه، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ﴾؛ أي: إن (٣) طريق الله الذي أوضحه لعباده ودينه الذي شرعه لهم ﴿هُوَ الْهُدَى﴾ والنور والاستقامة لا عبادة الأصنام؛ لأن ما وراءه ضلال، ففيه زجر عن عبادتها، كأنه يقول: لا نفعل ذلك، فإن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره، والمعنى: قل لهم يا محمَّد: إن هدى الله الذي أنزل به آياته، وأقام عليه حججه وبيناته هو الهدى الحق، لا يأتيه الباطل من بين يديه

(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.


الصفحة التالية
Icon