من تلك المادة صورة بشر سوي قابل للحياة، وقد يكون المعنى: إنا قدرنا إيجادكم تقديرا، ثم صورنا مادتكم تصويرا، ذلك شامل لخلق آدم وخلق مجموع الناس إذ أن كل فرد يقدر الله خلقه، ثم يصور المادة التي يخلقه منها في بطن أمه.
﴿ثُمَّ﴾ بعد إكمال خلقه وتصويره ﴿قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾؛ أي: أمرنا الملائكة بالسجود لآدم تكريما له ولذريته سجود تحية وإكرام بالانحناء. فالمراد (١) به السجود اللغوي، وهو الانحناء، وقيل: إن السجود شرعي بوضع الجبهة على الأرض لله، وآدم قبلة كالكعبة ﴿فَسَجَدُوا﴾؛ أي: سجد الملائكة بعد الأمر؛ أي: سجد جميعهم لآدم، وذلك قبل دخول الجنة ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ أبا الجن كان مفردا مستورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم، فغلّبوا عليه في قوله: ﴿لِلْمَلائِكَةِ...﴾ الخ، وقيل: هو أبو الشياطين فرقة من الجن لم يؤمن منهم أحد؛ أي: سجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى وامتنع من السجود له تكبرا وعنادا، فالاستثناء منقطع ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ له؛ أي: ممن سجدوا له.
والمعنى: وبعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا، وصار مستعدا لأن يكون خليفة في الأرض، وعلمناه الأسماء كلها.. قلنا لجماعة الملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾؛ أي: سجد الملائكة جميعا إلا إبليس أبى واستكبر، وهو من الجن لا منهم، وهذا السجود سجود تكريم وتعظيم من الله لآدم، لا سجود عبادة، فقد قامت الدلائل القاطعة على أنه لا معبود إلا الله وحده.
١٢ - ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى توبيخا للّعين ﴿ما مَنَعَكَ﴾ يا إبليس ﴿أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ بالسجود لآدم مع الملائكة؛ أي: أيّ شيء منعك من السجود لآدم حين أمرتك بالسجود له؟ فعلى (٢) هذا التأويل تكون ﴿لا﴾ زائدة في قوله: ﴿أَلَّا تَسْجُدَ﴾ كما في قوله تعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾؛ أي: أقسم زيدت لتأكيد معنى النفي في منعك بدليل قوله في سورة ص: ﴿ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ﴾ بحذفها، وهو الأصل؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، فيصير المعنى؛ أي شيء منعك من امتثال أمري،

(١) الصاوي.
(٢) الخازن.


الصفحة التالية
Icon