إنَّ على الله البيان: بيانَ الحقِّ من الباطل، والطاعةِ من المعصية (١)، وإنَّ الحياةَ الدنيا والحياةَ الآخِرةَ وما فيهِما مِلْكٌ لِلَّه، يُعطي من يشاء ويَحْرِمُ من يشاء، ومِنْ ذلك أنه وفَّقَ من أحبَّ لطاعته، وخَذَلَ من أبغضَ بمعصيتِه (٢).
١٤ - ١٦ - قولُه تعالى: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى *لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى *الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾؛ أي: فَحَذَّرْتُكُم أيها الناسُ النارَ التي تتوهَّجُ وتَلْتَهِبُ من شِدَّةِ إيقادِها، تلكَ النارُ التي لا يدخلُها ويُشْوَى فيها إلاَّ الذي شَقِيَ في حياته فكذَّب بما جاءَ عن ربِّه، وأعرضَ عنه فلم يؤمِن به.
١٧ - ٢١ - قولُه تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾؛ أي: وسيُبْعَدُ عن هذه النارِ الذي بلغَ الكمالَ في التقوى، الذي من صفتِه أنه يُعطي مالَهُ في الدنيا للمُحتاجين، وينفِقُهُ في سبيل الله، لأجلِ أن يتطهَّرَ بإعطائه هذا المالَ مِنَ الذنوبِ، وما أعطى هؤلاء المحتاجينَ لأنَّ بينَهُ وبينهُم منفعةً أعطاهُ إياهم من أجلِها، ولكنْ أعطاهُ إياهم لأجلِ أن يرضَى عنه ربه العالي على خَلْقِه، ولسوفَ يرضى هذا المُعطي بما سيُخْلِفُه الله عليه في الآخرة من الثواب (٣).
_________
(١) قال قتادة من طريق سعيد: «على الله البيان: بيانُ حلالِه وحرامِه، وطاعتِه ومعصيته».
(٢) قال الطبري: «وقوله: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى﴾ يقول: وإن لنا مِلْكَ ما في الدنيا والآخرة، نُعطي منها من أرَدْنا من خلقنا، ونحرمه من شئنا.
وإنما عنى بذلك ـ جل ثناؤه ـ أنه يوفِّقُ لطاعته من أحبَّ من خلقه، فيكرِمه بها في الدنيا، ويهيء له الكرامةَ والثوابَ في الآخرة، ويخذلُ من يشاءُ خِذْلانَه من خلقِه عن طاعته، فيُهينه بمعصيته في الدنيا، ويُخزيه بعقوبته عليها في الآخرة»
.
(٣) قيل: نزلت هذه الآيات في أبي بكر، وردَ ذلك عن عبد الله من طريق ابن عامر، وقتادة من طريق سعيد، قال ابن كثير: «وقد ذكرَ غيرُ واحدٍ من المفسرين أنَّ هذه الآياتِ نزلت في أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، حتى إنَّ بعضَهم حكى الإجماعَ من المفسِّرين على ذلك، ولا شكَّ أنه داخلٌ فيها، وأَوْلى الأمة بعمومِها، فإن لفظها لفظُ العُموم، وهو قوله تعالى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾، ولكنه مقدَّمُ الأمةِ وسابقُهم في جميع هذه الأوصاف، وسائر الأوصافِ الحميدة...»


الصفحة التالية
Icon