المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن الله لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا» وقال السدي في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبدا. وقيل إن درجات أهل الجنة متفاوتة في العلو والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض وأخرج الله عز وجل الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب العالية، وأورد على هذا القول كيف يعقل أن الإنسان يرى الدرجات العالية والنعم العظيمة وهو محبوس عنها لا يصل إليها ولا يميل بطبعه إليها ولا يغتم بسبب حرمانه منها وإن كان في لذة ونعيم وأجيب عن هذا بأن الله تعالى قد وعد بإزالة الحقد والحسد من قلوب أهل الجنة حتى تكمل لهم اللذة والسرور حتى إن أحدهم لا يرى نفسه إلا في كمال وزيادة في النعيم الذي هو فيه فيرضى بما هو فيه ولا يحسد أحدا أبدا وبهذا تم نعيمه ولذته وكمل سروره وبهجته.
وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ لما أخبر الله تعالى بما أنعم به على أهل الجنة من إزالة الغل والحسد والحقد من صدورهم أخبرنا بما أنعم به عليهم من اللذات والخيرات والمسرات وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا يعني أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا رحمة منه وإحسانا وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ يعني وما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أنه أرشدنا الله إليه ووفقنا بفضله ومنه وكرمه وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه الله ومن لم يهده الله فليس بمهتد لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ يعني أن أهل النعيم إذا دخلوها ورأوا ما أعد الله لهم فيها من النعيم قالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق يعني أنهم رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ يعني: ونادى منادي أهل الجنة إن هذه الجنة التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا واختلفوا في المنادى فقيل هو الله عز وجل وقيل الملائكة ينادون بأمر الله عز وجل وقيل هذا النداء يكون في الجنة (م). عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا فذلك قوله عز وجل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون».
وقوله تعالى: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة» زاد في رواية فذلك قوله تعالى: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال بعضهم لما سمى الله الكافر ميتا بقوله أموات غير أحياء وسمى المؤمن حيا بقوله: لينذر من كان حيا وفي الشرع أن الأحياء يرثون الأموات فقال أورثتموها يعني أن المؤمن حي وهو يرث الكافر منزله من الجنة لأنه في حكم الميت. وقيل معناه أن أمرهم يؤول إلى الجنة كما أن الميراث يؤول إلى الوارث، وقيل: أورثتموها عن الأعمال الصالحة التي عملتموها لأن الجنة جعلت لهم جزاء وثوابا على الأعمال ويعارض هذا القول ما ورد عن النبي ﷺ أنه قال «لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة الله» فإن دخول الجنة برحمة الله وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال. وقيل إن العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله تعالى وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله تعالى وجعلها الله ثوابا وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا والله أعلم.