لأنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم فكبر قابيل وأخوه هابيل وكان بينهما سنتان، فلما بلغوا، أمر الله آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل ويزوج هابيل إقليما. وكانت إقليما أحسن من لبودا، فذكر آدم ذلك لهما فرضي هابيل وسخط قابيل وقال: هي أختي وأنا أحق بها ونحن أولاد من الجنة وهما من أولاد الأرض. فقال أبوه آدم: إنها لا تحل لك. فأبى أن يقبل ذلك. وقال: إن الله لم يأمرك بهذا وإنما هو من رأيك فقال لهما آدم. قربا لله قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها وإن لم تكن مقبولة لم تنزل النار بل تأكلها الطير والسباع. فخرجا من عند آدم ليقربا القربان وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام رديء وأضمر في نفسه: لا أبالي أيتقبل مني أم لا لا يتزوج أختي أحد غيري وكان هابيل صاحب غنم فعدل إلى أحسن كبش في غنمه فقربه وأضمر في نفسه رضا الله فوضعا قربانهما على جبل ثم دعا آدم فنزلت النار من السماء فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فذلك قوله تعالى: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما يعني هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ يعني قابيل فغضب قابيل إذ لم يتقبل قربانه فأضمر لأخيه الحسد إلى أن آتى آدم مكة لزيارة البيت وغاب عنهم فأتى قابيل وهابيل وهو في غنمه قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ قال هابيل ولم تقتلني؟ قال قابيل:
لأن الله تقبّل قربانك وردّ قرباني وتريد أن تنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث الناس بأنك خير مني ويفخر ولدك على ولدي فقال هابيل وما ذنبي إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ يعني أن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال فلذلك كان أحد القربانين مقبولا دون الآخر ولأن التقوى من أعمال القلوب وكان قد أضمر في قلبه الحسد لأخيه على تقبل قربانه وتوعّده بالقتل فقال له: إنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى وإنما يتقبل الله من المتقين فأجابه بجواب مختصر. وقيل: يحتمل أن يكون خطابا للنبي ﷺ فكأنه تعالى بين للنبي ﷺ أنه إنما لم يتقبل قربانه لأنه لم يكن متقيا وإنما يتقبل الله من المتقين ثم قال تعالى إخبارا عن هابيل.
[سورة المائدة (٥): الآيات ٢٨ الى ٣٠]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ يعني لئن مددت إلي يدك لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ يعني ما أنا بمنتصر لنفسي بل أستسلم لأمر الله. وقيل: معناه ما كنت بمبتدئك بالقتل وذلك أن الله كان قد حرم عليهم قتل نفس بغير نفس ظلما. وقال مجاهد: كان قد كتب عليهم إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه.
وقيل: إن المقتول كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرج عن قتل أخيه فاستسلم له خوفا من الله فذلك قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ والمعنى إني أخاف الله في بسط يدي إليك إن أبسطها لقتلك أن يعاقبني على ذلك.
قوله عز وجل إخبارا عن هابيل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يعني ترجع بإثم قتلي إلى إثم معاصيك التي عملتها من قبل. فإن قلت: كيف؟ قال هابيل إني أريد وإرادة القتل والمعصية من الغير لا تجوز. قلت:
أجاب ابن الأنباري عن هذا بأن قال: إن قابيل لما قال لأخيه هابيل لأقتلنك وعظه هابيل وذكره الله واستعطفه وقال لئن بسطت إليّ يدك الآية فلم يرجع فلما رآه هابيل قد صمم على القتل وأخذ له الحجارة ليرميه بها قال له هابيل عند ذلك إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك أي إذا قتلتني ولم يندفع قتلك إياي إلا بقتلي إياك فحينئذ يلزمك إثم قتلي إذا قتلتني فكان هذا عدلا من هابيل وإليه أشار الزجاج فقال: معناه إن قتلتني فما أنا مريد ذلك فهذه الإرادة منه بشرط أن يكون قاتلا له والإنسان إذا تمنى أن يكون إثم دمه على قاتله لم يلم على ذلك وعلى هذا التأويل.