قدم التعذيب على المغفرة، لأنه في مقابلة قطع السرقة على التوبة. وهذه الآية فاضحة للقدرية والمعتزلة في قولهم بوجوب الرحمة للمطيع والعذاب للعاصي لأن الآية دالة على أن التعذيب والرحمة مفوضان إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك وجواب آخر وهو أنه تعالى أخبر أن له ملك السموات والأرض والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وأراد لا اعتراض لأحد عليه في ملكه يؤكد ذلك قوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه وغفران ذنوب من أراد إسعاده وإنقاذه من الهلكة من خلقه، لأن الخلق كلهم عبيده وفي ملكه.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ هذا خطاب للنبي ﷺ وهو خطاب تشريف وتكريم وتعظيم، وقد خاطبه الله عز وجل بيا أيها النبي في مواضع من كتابه وبيا أيها الرسول في موضعين: هذا أحدهما والآخر قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وقوله لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يعني لا تهتم بموالاتهم الكفار ولا تبال بهم فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يعني المنافقين لأنهم أظهروا الإيمان بالقول وكتموا الكفر وهذه صفة المنافقين وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا أي وطائفة من اليهود قال الزجاج وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن الكلام تم عند قوله ومن الذين هادوا ثم ابتدأ الكلام بقوله:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ويكون تقدير الكلام لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ من المنافقين وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا ثم وصف الكل بكونهم سماعين للكذب.
والوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ثم ابتدأ فقال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي ومن الَّذِينَ هادُوا قوم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ والمعنى أنهم قائلون الكذب، أي يسمعون الكذب من رؤسائهم ويقبلونه منهم والسمع يستعمل والمراد منه القبول، كما تقول: لا تسمع من فلان أي، لا تقبل منه. وقيل: معناه سماعون لأجل أن يكذبوا عليك وذلك أنهم كانوا يسمعون من رسول الله ﷺ ثم يخرجون من عنده ويقولون سمعنا منه كذا وكذا ولم يسمعوا ذلك منه بل كذبوا عليه. وقوله تعالى: سَمَّاعُونَ يعني بني قريظة يعني أنهم جواسيس وعيون لِقَوْمٍ آخَرِينَ وهم أهل خيبر لَمْ يَأْتُوكَ يعني أهل خيبر لم يأتوك ولم يحضروا عندك يا محمد.
((ذكر القصة في ذلك)) قال علماء التفسير: إن رجلا وامرأة من أشراف يهود خيبر زنيا وكانا محصنين وكان حدهما الرجم عندهم في حكم التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فقالوا: إن هذا الرجل بيثرب يعنون محمدا ﷺ وليس في كتابه الرجم ولكن الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح معه فليسألوه عن ذلك، فبعثوا رهطا منهم مستخفين وقالوا لهم: اسألوا محمدا عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما؟ فإن أمركم بالحد فاقبلوا منه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا معهم الزانيين. فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير وقالوا لهم: إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث فينا حدث وذلك أن فلان وفلانة قد زنيا وقد أحصنا فنحب أن تسألوه عن قضائه في ذلك فقال لهم بنو قريظة والنضير إذا والله يأمركم بما تكرهون ثم انطلق قوم منهم فيهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصّيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله ﷺ وقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك؟ فقال هل ترضون بقضائي؟ قالوا: نعم فنزل جبريل عليه السلام بآية الرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، ووصفه لهم فقال لهم النبي ﷺ هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا نعم قال فأي رجل هو فيكم؟ فقالوا هو أعلم يهودي


الصفحة التالية
Icon