ذلك كله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد بقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك شيئا آخر سوى ما ذكره المفسرون.
وللعلماء في ذلك أجوبة:
أحدها: قال ابن الأنباري: قد علم الله سبحانه وتعالى أن النبي ﷺ لا يترك شيئا مما يوحى إليه إشفاقا من موجدة أحد وغضبه ولكن الله تعالى أكد على رسول الله ﷺ في متابعة الإبلاغ من الله سبحانه وتعالى كما قال:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية.
الثاني: أن هذا من حثه سبحانه وتعالى لنبيه ﷺ وتحريضه على أداء ما أنزل إليه والله سبحانه وتعالى من وراء ذلك في عصمته مما يخافه ويخشاه.
الثالث: أن الكفار كانوا يستهزئون بالقرآن ويضحكون منه ويتهاونون به وكان رسول الله ﷺ يضيق صدره لذلك وأن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويستهزئون به فأمره الله سبحانه وتعالى بتبليغ ما أوحي إليه وأن لا يلتفت إلى استهزائهم وأن تحمل هذا الضرر أهون من كتم شيء من الوحي، والمقصود من هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك مشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في باب الترك أعظم سهل عليه الإقدام على الفعل، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسول الله ﷺ لا يترك شيئا من الوحي هيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة باستهزائهم وردهم إلى قبول قوله بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم مخافة ردهم واستهزائهم به وضائق به صدرك أي بأن تتلوه عليهم أَنْ يَقُولُوا يعني مخافة أن يقولوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ يعني يستغني به وينفقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يعني يشهد بصدقه وقائل هذه المقالة هو عبد الله بن أمية المخزومي.
والمعنى أنهم قالوا لرسول الله ﷺ إن كانت صادقا في قولك بأنك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وأنت عزيز عنده مع أنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به أنت وأصحابك وهل أنزل عليك ملكا يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فأخبر الله عز وجل أنه ﷺ نذير بقوله عز وجل: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ تنذر بالعقاب لمن خالفك وعصى أمرك وتبشر بالثواب لمن أطاعك وآمن بك وصدقك وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ يحفظ أقوالهم وأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة.
[سورة هود (١١): الآيات ١٣ الى ١٥]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥)
قوله سبحانه وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ يعني بل يقول كفار مكة اختلقه يعني ما أوحي إليه من القرآن قُلْ أي قل لهم يا محمد فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ لما قالوا له افتريت هذا القرآن واختلقته من عند نفسك وليس هو من عند الله تحداهم وأرخى لهم العنان وفاوضهم على مثل دعواهم فقال ﷺ هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي شيء وأن الأمر كما قلتم وأنتم عرب مثلي من أهل الفصاحة وفرسان البلاغة وأصحاب اللسان فأتوا أنتم بكلام مثل هذا الكلام الذي جئتكم به مختلق من عند أنفسكم فإنكم تقدرون على مثل ما أقدر عليه من الكلام فلهذا قال سبحانه وتعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ في مقابلة قولهم افتراه.
فإن قلت قد تحداهم بأن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك وعجزوا عنه فكيف قالوا فأتوا بعشر سور