«إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورهما وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء فيكتب الملك، ثم يقول يا رب أجله فيقول: ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول: الملك يا رب رزقه فيقول: ربك ما يشاء
ويكتب الملك ثم يخرج الملك الصحيفة، فلا يزيد على أمر ولا ينقص»
أخرجه مسلم (ق) عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه نطفة أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». فإن قلت: هذا الحديث والذي قبله صريح بأن الآجال والأرزاق مقدرة، وكذا السعادة والشقاوة لا تتغير عما قدره الله وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصانها، وكذلك يستحيل أن ينقلب السعيد شقيا أو الشقي سعيدا، وقد صح في فضل صلة الرحم أن صلة الرحم تزيد في العمر فكيف الجمع بين هذه الأحاديث، وبين قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت؟. قلت: قد تكرر بالدلائل القطعية أن الله عالم الآجال والأرزاق وغيرها. وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه فإذا علم الله أن زيدا يموت في وقت معين استحال أن يموت قبله أو بعده وهو قوله تعالى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ فدل ذلك على أن الآجال لا تزيد ولا تنقص. وأجاب العلماء عما ورد في الحديث في فضل صلة الرحم من أنها تزيد في العمر بأجوبة الصحيح منها: أن هذه الزيادة تكون بالبركة في عمره بالتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع وغير ذلك. والجواب الثاني: منها أنها بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ أن عمر زيد مثلا ستون سنة، إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون سنة، وقد علم الله في الأزل ما سيقع من ذلك، وهو معنى قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت أي بالنسبة لما يظهر للمخلوقين من تصوير الزيادة. وأما انقلاب الشقي سعيدا أو السعيد شقيا فيتصور في الظاهر أيضا لأن الكافر قد يسلم فينقلب من الشقاوة إلى السعادة، وكذا العاصي ونحوه وقد يتوب فينقلب من الشقاوة إلى السعادة وقد يرتد المسلم، والعياذ بالله تعالى، فيموت على ردته فينقلب من السعادة إلى الشقاوة، والأصل في هذا الاعتبار بالخاتمة عند الموت وما يختم الله به له وهو المراد من علم الله الأزلي الذي لا يتغير ولا يتبدل. والله أعلم. وأصل المحو: إذهاب أثر الكتابة وضده الإثبات فمن العلماء من حمل الآية على ظاهرها فجعلها عامة في كل شيء يقتضيه ظاهر اللفظ، فيزيد الله ما يشاء في الرزق والأجل. وكذا القول في السعادة والشقاوة والإيمان بالله والكفر. ونقل نحو هذا عن عمر وابن مسعود فإنهما قالا: يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء. وروي عن عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني من أهل السعادة والمغفرة فأثبتني فيها وإن كنت كتبتني من أهل الشقاوة فامحني منها وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب وروي مثله عن ابن مسعود وقد ورد في بعض الآثار «أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة» هكذا ذكر البغوي بغير سند. وروي بسنده عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ينزل الله تبارك وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت» ومن العلماء من حمل معنى الآية على الخصوص في بعض الأشياء دون بعض فقال: المراد بالمحو والإثبات نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر عوضا عن الحكم المتقدم، وقيل:
إن الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب، ولا عقاب مثل قول القائل أكلت، شربت، دخلت، خرجت، ونحو ذلك من الكلام، وهو صادق فيه ويثبت ما فيه


الصفحة التالية
Icon