بهذا الدعاء، هضما للنفس وإظهارا للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى ورحمته، وأن أحدا لا يقدر على نفع نفسه بشيء لم ينفعه الله به فلهذا السبب دعا لنفسه بهذا الدعاء وأما دعاؤه لبنيه، وهو الوجه الثالث من الإشكالات فالجواب عنه من وجوه: الأول أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه، ولم يعبد أحد منهم صنما قط. الوجه الثاني: أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم.
الوجه الثالث قال الواحدي: دعا لمن أذن الله أن يدعو له فكأنه قال: وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم لأن دعاء الأنبياء مستجاب وقد كان من بنيه من عبد الصنم فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص.
الوجه الرابع: أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية: فمن تبعني فإنه مني، وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى رَبِّ إِنَّهُنَّ يعني الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وهذا مجاز لأن الأصنام جمادات، وحجارة لا تعقل شيئا حتى تضل من عبدها إلا أنه لما حصل الإضلال بعبادتها أضيف إليها كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرتهم وإنما فتنوا بها واغتروا بسببها فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يعني فمن تبعني على ديني واعتقادي، فإنه مني يعني المتدينين بديني المتمسكين بحبلي كما قال الشاعر:
إذا حاولت في أسد فجورا | فإني لست منك ولست مني |
أراد ولست من المتمسكين بحبلي، وقيل: معناه أنه مني حكمه حكمي جار مجراي في القرب والاختصاص وَمَنْ عَصانِي يعني في غير الدين فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال السدي: ومن عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم. وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم. وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا فقال: ومن عصاني فخالفني في بعض الشرائع وعقائد التوحيد فإنك غفور رحيم إن شئت أن تغفر له غفرت إذا كان مسلما وذكر وجهين آخرين أحدهما أن هذا كان قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبويه، وهو يقول أن ذلك غير محظور، فلما عرف أنهما غير مغفور لهما تبرأ منهما، والوجه الآخر ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان، والإسلام وتهديه إلى الصواب. قوله عز وجل إخبارا عن إبراهيم رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (خ) عن ابن عباس قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم فدعا بهذه الدعوات فرفع يديه فقال: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفاء أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليها ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت صوتا أيضا فقالت: قد أسمعت أن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بقعبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه، وتقول: بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف