فإن قلت: رب إنما وضعت للتقليل، وتمني الذين كفروا لو كانوا مسلمين يكثر يوم القيامة فكيف قال: ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. قلت: قال صاحب الكشاف هو وارد على مذهب العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على فعله، ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغمّ المظنون كما يتحرزون من المتيقن ومن القليل منه كما يتحرزون من الكثير وقال غيره إن هذا القليل أبلغ في التهديد ومعناه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرا لك عن هذا الفعل. فكيف بكثيره؟ وقيل: إن شغلهم بالعذاب لا يقرعهم للندامة إنما يخطر ذلك ببالهم. فإن قلت: رب لا تدخل إلا على الماضي فكيف قال: ربما يود وهو في المستقبل قلت لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه كأنه قال: ربما ود. قوله سبحانه وتعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا يعني دع يا محمد هؤلاء الكفار يأكلوا في دنياهم ويتمتعوا بلذاتها وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ يعني ويشغلهم طول الأمل عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يعني إذا وردوا القيامة، وذاقوا وبال ما صنعوا وهذا فيه تهديد ووعيد لمن أخذ بحظه من الدنيا، ولذاتها ولم يأخذ بحظه من طاعة الله عز وجل، وقال بعض أهل العلم: ذرهم تهديد وفسوف يعلمون تهديد آخر فمتى يهنأ العيش بين تهديدين وهذه الآية منسوخة بآية القتال، وفي الآية دليل على أن إيثار التلذذ، والتنعم في الدنيا يؤدي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين. قال علي بن أبي طالب: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل، ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٤ الى ١٧]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧)
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ يعني من أهل قرية وأراد إهلاك الاستئصال إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي أجل مضروب، ووقت معين لا يتقدم العذاب عليه، ولا يتأخر عنه ولا يأتيهم إلا في الوقت الذي حدد لهم في اللوح المحفوظ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها من زائدة، في قوله: من أمة كقولك ما جاءني من أحد. وقيل: هي على أصلها لأنها تفيد التبعيض إلى هذا الحكم فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد، ومعنى الآية أن الأجل المضروب لهم وهو وقت الموت، أو نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وهو قوله سبحانه وتعالى: وَما يَسْتَأْخِرُونَ وإنما أدخل الهاء في أجلها لإرادة الأمة، وإخراجها من قوله وما يستأخرون لإرادة الرجال. قوله عز وجل وَقالُوا يعني مشركي مكة يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ يعني القرآن وأرادوا به محمدا صلّى الله عليه وسلّم إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ إنما نسبوه إلى الجنون لأنه صلّى الله عليه وسلّم، كان يظهر عند نزول الوحي عليه ما يشبه الغشي، فظنوا أن ذلك جنون فلهذا السبب نسبوه إلى الجنون، وقيل: إن الرجل إذا سمع كلاما مستغربا من غيره فربما نسبه إلى الجنون، ولما كانوا يستبعدون كونه رسولا من عند الله، وأتى بهذا القرآن العظيم أنكروه ونسبوه إلى الجنون، وإنما قالوا: يا