المراد به الجمع للإيجاز والاختصار في اللفظ وقيل اليمين راجع إلى لفظ الشيء وهو واحد والشمائل راجع إلى المعنى لأن لفظ الشيء يراد به الجمع سُجَّداً لِلَّهِ في معنى هذا السجود قولان: أحدهما أن المراد به الاستسلام والانقياد والخضوع. يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل والمعنى أن جميع الأشياء التي لها ظلال فهي منقادة لله تعالى مستسلمة لأمره غير ممتنعة عليه، فيما سخرها له من التفيؤ وغيره وقال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله، والقول الثاني في معنى هذا السجود أن الظلال واقعة على الأرض، ملتصقة بها كالساجد على الأرض فلما كانت الظلال يشبه شكلها الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وقيل ظل كل شيء ساجد لله سواء كان ذلك الشيء يسجد لله أو لا ويقال إن ظل الكافر ساجد لله وهو غير ساجد لله، وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون أذلاء والداخر الصاغر الذي يفعل ما تأمره به شاء أم أبى وذلك أن جميع الأشياء منقادة لأمر الله تعالى. فإن قلت الظلال ليست من العقلاء فكيف عبر عنا بلفظ من يعقل وجمعها بالواو والنون. قلت: لما وصفها الله سبحانه وتعالى بالطاعة والانقياد لأمره، وذلك صفة من يعقل عبر عنها بلفظ من يعقل، وجاز جمعها بالواو والنون، وهو جمع العقلاء قوله عز وجل وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ قال العلماء: السجود على نوعين سجود طاعة، وعبادة كسجود المسلم لله عز وجل، وسجود انقياد وخضوع كسجود الظلال فقوله: ولله يسجد ما في السموات، وما في الأرض من دابة يحتمل النوعين لأن سجود كل شيء بحسبه فسجود المسلمين، والملائكة لله سجود عبادة وطاعة وسجود غيرهم سجود انقياد، وخضوع وأتى بلفظ ما في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد، والحكم للأغلب كتغليب المذكر على المؤنث، ولأنه لو أتى بمن التي هي للعقلاء لم يكن فيها دلالة على التغليب بل كانت متناولة للعقلاء خاصة فأتى بلفظة ما ليشمل الكل، ولفظة الدابة مشتقة من الدبيب وهو عبارة عن الحركة الجسمانية، فالدابة اسم يقع على كل حيوان جسماني يتحرك ويدب فيدخل فيه الإنسان، لأنه مما يدب على الأرض، ولهذا أفرد الملائكة في قوله وَالْمَلائِكَةُ لأنهم أولو أجنحة يطيرون بها أو أفردهم بالذكر، وإن كانوا من جملة من في السموات لشرفهم. وقيل: أراد ولله يسجد ما في السموات
من الملائكة، وما في الأرض من دابة فسجود الملائكة والمسلمين للطاعة، وسجود غيرهم تذليلها وتسخيرها لما خلقت له وسجود ما لا يعقل، وسجود الجمادات يدل على قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيدعو الغافلين إلى السجود لله عند التأمل والتدبر وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يعني الملائكة يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وكقوله «وهو القاهر فوق عباده» وقد تقدم تفسيره وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ عن أبي ذر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا، وملك واضع جبهته ساجدا والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» قال أبو ذر: لوددت أني كنت شجرة تعضد أخرجه الترمذي وقال عن أبي ذر موقوفا.
فصل
وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها وسماعها. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة النحل (١٦): الآيات ٥١ الى ٦٠]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)