صاحبه قالا: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتى عتبة الخزاعي. وقال: إن قريشا قد جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أشيروا عليّ أيها الناس أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله أو ترون أن نؤم البيت لا نريد قتال أحد ولا حربا فمن صدنا عنه قاتلناه. فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما جئت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربا فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: امضوا على اسم الله فنفذوا. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته فقال الناس: حل حل. فألحت فقالوا خلأت القصواء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم من خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال: والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضا فلم يلبث الناس أن نزحوه. وشكا الناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم العطش، فنزع سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزل في البئر فغرزه في جوفه. فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نجيء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر.
فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا، فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قوم، ألستم بالولد؟ قالوا: بلى. قال: أو لست بالوالد؟
قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ؟ فلما ألحّوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها ودعوني آتية قالوا ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي ولم أجزك بها لأجبتك.
قال وجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنصل السيف. وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟
وكان المغيرة قد صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء.