القصة فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم ولو جرى ذلك من بعض الناس في كلامه لاستهجنه العقلاء وقالوا أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه أثناء مدحك والله تعالى منزه عن مثل هذا في كلامه القديم.
فإن قلت في الآية ما يدل على صدور الذنب منه وهو قوله تعالى وظن داود إنما فتناه وقوله فاستغفر ربه وقوله وأناب وقوله فغفرنا له ذلك.
قلت ليس في هذه الألفاظ شيء مما يدل على ذلك وذلك لأن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها فيطالبون بأكمل الأخلاق والأوصاف وأسناها فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشرية عاتبهم الله تعالى على ذلك وغفره لهم كما قيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
فإن قلت فعلى هذا القول والاحتمال فما معنى الامتحان في الآية؟
قلت ذهب المحققون من علماء التفسير وغيرهم في هذه القصة إلى أن داود عليه الصلاة والسلام ما زاد على أن قال للرجل. انزل لي عن امرأتك وأكفلنيها، فعاتبه الله تعالى على ذلك ونبهه عليه وأنكر عليه شغله بالدنيا وقيل إن داود تمنى أن تكون امرأة أوريا له فاتفق أن أوريا هلك في الحرب فلما بلغ داود قتله لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله تعالى. وقيل إن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت نفسها منه لجلالته فاغتمّ لذلك أوريا فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسعة وتسعون امرأة ويدل على صحة هذا الوجه قوله وعزني في الخطاب فدل هذا على أن الكلام كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزوج أوريا لها، فعوتب داود بسببين أحدهما: خطبته على خطبة أخيه والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وقيل إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس هو بسبب أوريا والمرأة وإنما هو بسبب الخصمين وكونه قضى لأحدهما قبل سماع كلام الآخر وقيل هو قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فحكم على خصمه بكونه ظالما بمجرد الدعوى فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه الصلاة والسلام مما نسب إليه والله أعلم.
وقوله عز وجل: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أي سأل ربه الغفران وَخَرَّ راكِعاً أي ساجدا، عبّر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء. وقيل معناه وخرّ ساجدا بعد ما كان راكعا والله تعالى أعلم بمراده.
(فصل) اختلف العلماء في سجدة ص هل هي من عزائم السجود، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنها ليست من عزائم سجود التلاوة قال: لأنها توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة. وقال أبو حنيفة: هي من عزائم سجود التلاوة واستدل بهذه الآية على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجود التلاوة، وعن أحمد: في سجدة ص روايتان وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد فيها (خ). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجدة ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد فيها قال مجاهد قلت لابن عباس أسجد في ص فقرأ ومن ذريته داود وسليمان حتى أتى فبهداهم اقتده فقال نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم فسجدها داود فسجدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللنسائي «عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد في ص وقال سجدها داود توبة فنسجدها شكرا» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة ص وهو على المنبر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشوف الناس لسجوده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشوفتم