والذي يظهر لجميع الباحثين أن كثيراً من القراء هم من النحاة، وأن كثيراً منهم يتميز بالضبط والدقة في النقل، وأن بعضهم أعلى رتبة من بعض النحاة. فلما رجح ابن عطية الأندلسي (ت ٥٤٦هـ) نقل أبي الفتح ابن جني، على نقل أبي عمرو الداني (ت ٤٤٤ هـ)، رد عليه أبو حيان النحوي (ت ٧٤٥ هـ) فقال: (هذا الذي قاله من أن أبا الفتح أثبت، كلام لا يصح، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها، وضبط رواياتها، واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءات، فضلاً عن النحاة الذين ليسوا بمقرئين، ولا رووا القرآن عن أحد، ولا روى عنهم القرآن أحد، هذا مع الديانة الزائدة، والتثبت في النقل، وعدم التجاسر، ووفور الحظ من العربية، فقد رأيت له كتاباً في (كلا وكلتا)، وكتاباً في (إدغام أبي عمرو الكبير)، دل على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النحاة ولا المعربين، إلى سائر تصانيفه رحمه الله) (١).
وإذا كانت القراءة من غير المتواتر المجمع عليه، فلا حرج عندي إذا ردها أحد علماء النحو أو اللغة، إن كان يمتلك الدليل الثابت، لأن كثيراً منها يحتج له في لغة العرب. أما إن كانت القراءة القرآنية متواترة، قد رويت بالأسانيد الصحيحة التي لا تقبل الشك، فقد نقلت آراء جهابذة العلماء في قبولها، بعد بيان الأدلة على فصاحتها، فهذه القراءات قد روتها الأمة جيلاً عن جيل، عن أفصح الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولأنه قرأ بها وأقرأها لأصحابه، بالصورة التي وصلت إلينا متواترة كما هي.
وسوف أناقش هذه المسألة في موضعها - إن شاء الله - بعد أن أعرف بالقراءات، ضمن ما يتطلبه البحث.