ثم يقول الغزالي: وكان في السلف من يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم، ويمونهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياتهم، وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت هل لكم ملح هل لكم حاجة، وكان يقوم بها حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفة والأخوة، فإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه؛ فلا خير فيها.
قال ميمون بن مهران: من لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا وإن لله أواني في أرضه، -وهي القلوب- فأحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها)) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها على الإخوان، وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك، أو أهم من حاجتك، وأن تكون متفقدًا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها، ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، بل تتقلد منة بقبوله سعيك في حقك، وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة بل تجتهد في البداية بالإكرام في الزيادة والإيثار. يقول عطاء: "تفقدوا أخوانكم بعد ثلاث فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا نسوا فذكروهم". وقال سعيد بن العاص: "لجليسي علي ثلاث إذا دنى رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له"، وقد قال تعالى ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: ٢٩) إشارة إلى الشفقة والإكرام، ومن تمام الشفقة ألا ينفرد بطعام لذيذ، أو بحضور في مسرة دونه، بل يتنغص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه.