القلوب التي لا اطلاع عليها إلا لعلام الغيوب، وهذا ما يعبر عنه قوله -عز وجل-: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف: ١٠٣).
فمع شدة حرصه ﷺ على هداية الناس، إلا أن الله كثيرًا ما يُذكِّر بأن مرد هذه الهداية له وحده فيقول: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص: ٥٦) وعليه ألا يحزن لعدم إيمان من آمن، كما قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام: ٣٣) كما قال: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ (الشعراء: ٣، ٤).
ومعنى ﴿بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ أي: مهلكها، إلى غير ذلك من الآيات التي تبين رحمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخلق، وكيف كان حريصًا كل الحرص على هدايتهم، ولكن حسبه أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأخلص النصيحة للناس.
ودرس ثالث في التعقيب على قصة يوسف تلمحه في قول الله تعالى: ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (يوسف: ١٠٤) فهذا يعني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس طالب دنيا، إنما يريد بدعوته أن يدل الناس على طريق ربهم، لا يطلب على ذلك أجرًا من أحد، إنما أجره عند الله، وهكذا كل الرسل، واقرءوا في ذلك في "الشعراء" ما قاله كل من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب -عليهم السلام- فقد قال كل منهم لقومه هذه العبارة: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الشعراء: ١٠٩).
وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذا أمره مولاه، فقال له: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (سبأ: ٤٧) وفي هذا كما ترون لوم وعتاب للمشركين الجاحدين؛ إذ كيف يأتيهم رسول يدعوهم إلى ربهم، لا يطلب


الصفحة التالية
Icon