العرب، لكنها حين اجتمعت مع بعضها لم يستطع أحد أن يأتي بمثلها، ففيها سر الله وإعجازه للبشر، وما مثال ذلك إلّا هذه الصور التي تراها هنا وهناك، مما يصنعه الناس من صور الإنسان والحيوان والطيور، وإن كان تصوير ذلك غير جائز، لكنك تراه كما ترى صورًا للأشجار والنباتات، فهل في إمكان من صور ذلك أن يجعل هذه الصور عاقلة مدركة نامية، إنها خلت من سر الحياة، وسر الحياة هو الروح التي هي من أمر الإله الخالق ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: ٨٥).
وهذه الروح هي الفارق بين كلام المخلوق وكلام الخالق، ولذلك سمَّى الله قرآنه روحًا فقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ (الشورى: ٥٢، ٥٣) ولذلك قال عز من قائل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: ٢)
فدلّ التعظيم في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ على أنّ هذا القرآن قد صدر من إله عظيم متَّصف بصفات الجلال والكمال، نزل من الروح المحفوظ في ليلة مباركة هي ليلة القدر، إحدى ليالي شهر رمضان، فأودع في السماء الدنيا في بيت العزة، ثم نزل به جبريل نجومًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، في مدة ثلاث وعشرين سنة، بلسان عربيٍّ واضح بَيِّن، يتحدى به الفصحاء والبلغاء؛ ليكون في نزوله باللسان العربي حجة على العرب ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: ٤).
فلمّا كان القرآن بلسانهم كان ذلك شرفًا لهم ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف: ٤٤) وليكون في نزوله عربي اللسان، واضح البيان، ما يدعو


الصفحة التالية
Icon