وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع -أي: من الجن- على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، قال: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟!)) قال: نعم، قال: ((فاسمع مني)) قال: أفعل. فقال: ((بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ (فصلت: ١ - ٥).
ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك)).
قام عتبة -كما يقول ابن إسحاق- إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كوفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم".
ولو تتبعنا مسيرة دعوته -صلى الله عليه وسلم؛ لرأينا داعية إلى الحق من طراز فريد؛ لما أوتي من محاسن الأخلاق وقوة البيان وصدق الحديث وسعة الصدر، ولذلك لم يرفض دعوته إلّا مكابر وحاقد حاسد.