خلق الخلق لحكمة وغاية، وجميع المخلوقات عدا الإنس والجن منقادة لله عابدة له، أما الإنس والجن فلهما حرية الاختيار بين الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، مع أنهما لم يخلقا أيضًا إلّا لعبادة الله، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: ٥٦)، وعبادته سبحانه إنما تكون وفق ما شرع، بل إن العبادة في مفهومها الواسع تشمل حركات الإنسان وسكناته ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام: ١٦٢، ١٦٣).
ولذلك لم يترك الله الإنسان سدى، إنما أرسل له الرسل وأنزل له الكتب، بدأ ذلك من آدم -عليه السلام- إلى أن ختمت سلسلة النبوات بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ووقف كل رسول يبلغ رسالة ربه، وعلى منهج هذا الرسول سار أتباعه ومن بعدهم، يدعون الناس إلى دين الله، فتنوّعت وسائل دعوتهم، فكان منها الاتصال المباشر بالأفراد فردًا فردًا، أو بعدة أفراد، وهي وسيلة ناجحة بها دخل في الإسلام الرعيل الأول كأبي بكر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة وأبي عبيدة، وغيرهم من السابقين للإسلام، وهذه الوسيلة في الدعوة قد تحتاج إلى معرفة سابقة بمن تدعوهم، فهم أصدقاء توثّقت بينهم وبين الداعية عرى الصداقة.
وقد بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعوته في بيته، فآمنت به زوجه خديجة، ومولاه زيد بن حارثة، وابن عمه علي بن أبي طالب، وبدأ الدعوة سرًّا مع أصحابه وأصدقائه، ثم أمره الله أن يجهر بدعوته فقال له: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الحجر: ٩٤) وقال له: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: ٢١٤) وبدأ يجهر بدعوته، فلم يقف خطيبًا يلقي العبارات، إنما وقف كما قلنا فأثبت أنه صادق، فلما أقروا له بذلك قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.