أما ما قبل ذلك وما بعده ففيه هذا الخلاف الذي تراه، وموطن العبرة هو الذي يقصده القرآن، وذلك يتحقّق بذكر مدة بعثته، وأنها هذه القرون المتطاولة، ومع ما بذل نوح في دعوته من جهود، إلّا أن عدد المؤمنين به لم يتجاوز عدّ الأصابع، قال تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ (هود: ٤٠) وكم في ذلك من تسلية وتسرية وتطمين لقلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي آمن به مع قلة عدد السنوات التي أمضاها في مكة، إلى أن نزلت عليه سورة "العنكبوت" التي منها هذه الآية، بل إن منها من آمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنوات معدودات، يصل إلى أضعاف من آمن بنوح -عليه السلام.
ودرسنا ليس في نوح واسمه وعمره وكم لبث في قومه، إنما درسنا في عرض نماذج من دعوته -عليه السلام- ودعوته قد عرضها القرآن في كثير من آياته، من خلال عرض قصته مطوّلة مفصلة، أو مختصرة، أو عن طريق الإشارة إلى اسمه وحده، مع بعض صفاته، أو في جملة من أوحى الله إليهم، وللقرآن في طريق عرض قصصه بين الطول والقصر والإطناب والإيجاز أسرار تتفق مع الأهداف العالية التي تساق لها آيات السورة، وفي ذلك سر من أسرار إعجاز القرآن.
وقد ذكر اسم نوح في القرآن ثلاثًا وأربعين مرة، وبجمع الآيات التي ورد فيها الاسم نستطيع أن نعرض الكثير من نماذج دعوته، فنرى ما دعا إليه وكيف دعا قومه لذلك، فلنتابع الآيات، أو بعض هذه الآيات، كما جاءت في القرآن الكريم، بدءًا من أول ذكر لنوح إلى آخر مرة ذكر فيها، في سورة سميت باسمه وهي سورة "نوح"، وقد ورد أول ذكر لنوح في القرآن ثناءً عليه في جملة من أثنى عليهم ربنا؛ حيث قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران: ٣٣، ٣٤).