يقول ابن القيم: "فاعلم أن سرَّ العبادة وغايتها وحكمتها إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب -عز وجل- ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلهًا، بل هو الإله الحق، وكل إله سواه فباطل، بل أبطلُ الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب ألوهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود.
فتأمل طريقة الأنبياء في الدعوة إلى الله، وكيف يبدءون بالأهم، بل بما لا فائدة لقول أو عمل إلا به، وأن طريقتهم في دعوتهم تقوم على الدليل، الذي يحاصر العقل فلا يجد له مناصًا إلّا أن يسلّم به ويستسلم، ولا يرفض ذلك إلّا من لا عقل له، ولذلك ترى القرآن حين يعرض أدلته، ويذكر إعراض المشركين عنها يقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (الحشر: ١٤) أو يقول: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: ١٧١) أو يقول: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: ١٧٩)، ويقول: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (الأنفال: ٢٢) ويقول: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (الفرقان: ٤٣، ٤٤).
والأمر الثاني الذي دعا إليه نوح -عليه السلام- هو الإيمان باليوم الآخر، وله في الدعوة إلى ذلك طريقة فذة، هي طريقة أنبياء الله ورسله في إيقاظ العقل والقلب والمشاعر؛ لتؤمن بالبعث بعد الموت، وما يسبق البعث من لحظات الانتقال من الدنيا، والانتقال للقبر وما يكون فيه، ثم ما يكون في البعث من حشر للمخلوقات،


الصفحة التالية
Icon