ومع أنه قال: ﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: ٦١) وكان مقتضى السياق أن يقول: "أبلغكم رسالاته"، إلّا أنه أظهر في موضع الإضمار وأضاف الربوبية له؛ ليقول لهم بأن إحساسه بربوبية الله له توجب عليه أن يجتهد في طاعته، وأن يقوم بتبليغ رسالاته إليهم.
وثاني الأمور جاء في قوله: ﴿وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾ (الأعراف: ٦٢) أي أبحث عن كل ما فيه مصلحتكم وسعادتكم، فأبينه لكم وأرشدكم إليه، يقول الألوسي: "أصل النصح في اللغة الخلوص، يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع"، ويقال: هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له، بفعل الخياط فيما يسُدّ من خلل الثوب، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمنصوح له، والتحري فيما يستدعيه حقه، وقد قال: ﴿وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾، دون وأنصحكم؛ ليقول لهم بأن فائدة هذا النصح عائدة عليهم لا على غيرهم، ونصيحته لهم هم الذين ينتفعون بها لا هو، فعليهم أن يقبلوها، فهل يرفض أحد نصيحة من أخلص له في نصيحته، وأخلص له في محبته، وأخذ يسُدّ خلله ونقصه، حتى يلبس ثوب الحياة قشيبًا سعيدًا، هل يرفض عاقل ذلك؟
أما الأمر الثالث: فهو ما جاء في قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: ٨٦) فما الذي يعلمه نوح وهم لا يعلمونه، إنه يعلم عن طريق الوحي من أمر الله وسنته في خلقه، وما يتبع هذه الدنيا من أحوال الآخرة ما لا يعلمون، ويعلم أنّ الله ذو القوة المتين، وأنه يبطش بالمكذبين المعاندين، وقوم نوح لا يعلمون ذلك لأنهم أول أمة عذبها الله بكفرها، فأزالها من على وجه الأرض، ولم يبق إلّا من آمن مع نوح، وما آمن معه إلا قليل.
وفي هذه النصائح الثلاثة يعبّر بالفعل المضارع: "أبلغكم"، "أنصح لكم"، "أعلم من الله"؛ ليدل على تجدد هذه الأفعال ودوامها، فهو -عليه السلام- لا


الصفحة التالية
Icon