والتهديد والوعيد، وقد اكتفى به نوح، فلم يذكر أنه جاء لينذرهم وليبشرهم؛ لأن المقام مقام زجر وتخويف.
وأمر آخر يترتب على مجيء نوح إليهم، هو أنه يضعهم على طريق التقوى، والتقوى فعل المأمورات وترك المنهيات، مع الحذر من التقصير في ذلك، والخوف العظيم من عدم قبول العمل، أو هي كما ورد على لسان علي بن أبي طالب: "التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل"، ومن عرف باب التقوى فولجه فاز بالنعيم المقيم في جنات النعيم.
أما الأمر الثالث: فهو رحمة الله التي تعمهم، فيبارك الله لهم فيما أعطاهم، وتجري عليهم أرزاقهم دارة كثيرة، ويحيون في سعادة وأمن وأمان، وينالون رحمة الله الواسعة في الآخرة كما نالوها في الدنيا، فمن الذي يرفض هذا العطاء كله، ومع كل الذي قاله ونصحهم به كذبوه، وكان تكذيبهم دون روية ونظر، كما يفهم من الفاء في قوله: "فكذبوه"، وكانت النجاة لنوح والذين معه بعد أن أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ، وأوحى الله إليه أن يصنع سفينة فصنعها، ولما جاء أمر الله فتح بقدرته السماء بماء منهمر، وفجر الأرض عيونًا فالتقى الماء على أمر قد قدر، وحمل الله نوحًا ومن معه في سفينة، ذات ألواح ودسر، وأنجى الله هذا النبي ومن آمن معه، وأغرق القوي القادر الذين كذبوا بآيات الله واستحقوا هذا لأنهم كانوا كما قال ربنا: ﴿قَوْمًا عَمِينَ﴾ (الأعراف: ٦٤) أعمى الله قلوبهم عن معرفته وتوحيده والإيمان بنبيه، فكانوا هالكين.
وبعد فهذه لقطة واحدة، ونموذج فيه عدة نماذج لدعوة نوح ومسلكه في دعوته، وما ذكر في السور الأخرى قريب مما ذكره الله في سورة الأعراف، فالحمد لله الذي نجّا نوحًا ومن معه، وحقق رجاء هذا النبي حين دعا فقال: ﴿رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ (المؤمنون: ٢٩).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.