وتركهما بأمر الله وحيدين في هذا المكان القفر، الذي لا أنيس فيه ولا جليس ولا طعام ولا ماء، وقف خلف الثنية يجأر إلى الله قائلًا: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (إبراهيم: ٣٧ - ٤١).
فالهدف من رحلته وتركه لزوجه وابنه في مكة إعلاء كلمة الله، وإقامة دين الله، ومثل هذا الدعاء ما نراه في دعاء إبراهيم وإسماعيل بعد أن أتما بناء البيت، بل أثناء عملهما في بنائه قالا: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: ١٢٧ - ١٢٩).
وهذا الحرص على الدعوة إلى الله هو الذي جعل إبراهيم وابن ابنه يعقوب يوجهان النصح لأبنائهما بالحرص على الدين إلى آخر لحظة من حياتهم. قال تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: ١٣٢).
وقد استجاب الله دعاء إبراهيم، ووهب له إسماعيل وإسحاق، وجعل من ذرية إسماعيل محمدًا خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل من ذرية إسحاق يعقوب وهو إسرائيل، أي عبد الله ومصطفاه، ومن يعقوب كانت الأسباط، فقد أنجب يعقوب اثني عشر ولدًا منهم يوسف -عليه السلام.