وهكذا فإذا ما تأملنا في القرآن نفسه، لنرى ما فيه من مناهج الدعوة، فسوف نراه سلك مسلكًا نورانيًّا ربانيًّا إلهيًّا في كل جانب دعا إليه، والقرآن كله يترجم دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن به لم يؤمن لأنه عجز عن معارضته في مقام التحدي، وإنما آمن به لما فيه من دعوة تقنع العقل والوجدان، وتأخذ بيد الإنسان إلى اطمئنان القلب وسعادة الروح، وحسن الصلة بالله والتراحم بين الناس.
فيرى أن هذا الذي جاء القرآن يدعو إليه واحة وارفة الظلال، تهدأ فيها الإنسانية بعد أن لفحها هجير الحياة، فتجد في ظلالها أمنها واستقرارها وسعادتها وخيرها، وتفصيل ذلك لا تحيط به العبارات ولا يتسع له الوقت، ولكن حسبنا أن نعرض بعضًا من ذلك، ونرى كيف دفع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى القلوب فانشرحت لها واستقبلتها في شوق وحنين، ولم يبق معرضًا عنها إلا من أعمى الله قلوبهم عن الحق، فهم كما قال الله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: ١٧١).
ولنأخذ مثلًا من دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى توحيد الألوهية، والقرآن -وبخاصة في الفترة المكية- بدأ بتقرير ثلاث قضايا، ليقيم عليها ما أراد من بناء، هذه القضايا هي: التوحيد، والرسالة، والبعث، ولإثبات ذلك قدم كثيرًا من الأدلة، التي حاصرت العقول، ولم تُبقِ حجة يحتج بها مكابر ومعاند.
ففي مقام إثبات الوحدانية تراه يلقي جملة من الأسئلة، التي يسلِّم بها المشركون، ليأخذ منها دليلًا بل أدلة قوية على أنه الجدير بأن يفرد بالألوهية، وأن تدين له الإنسانية بالطاعة والعبودية، لا تعبد إلهًا معه أو سواه.
والمشركون لا ينكرون أن الله هو الرب، الذي ربى الخلائق على موائد كرمه، فهو الخالق الرازق المحيي المميت، الذي خلقهم وخلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، وله من في السموات والأرض وهو رب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، والآيات الدالة على ذلك لا تخفى عليكم.