الصحف والسطور، ومشافهة من الأفواه والصدور، ولم يستغنوا في يوم من الأيام بأحد الطريقين عن الآخر. وهكذا نجد عثمان رضي الله عنه يزيد هذا المعنى رسوخا في أذهان المسلمين، فحتى لا يعتمدوا على الكتابة ويتكلوا على النسخ فحسب، راح يرسل مع النسخ إلى الأمصار، كبار الصحابة من القراء، فقد كان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرئ المكي، والمغيرة بن شهاب مقرئ الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرئ البصري.
وما أن توزّعت المصاحف الجديدة على البلدان الإسلامية، حتى أحرق كلّ مسلم ما كان عنده من قبل، وأقبل الناس يعكفون على هذه الأصول الوثيقة المعتمدة، نسخا وكتابة وحفظا، بالتلقي والمشافهة، مما يزيدنا يقينا أن المصحف الذي بين أيدينا اليوم، هو القرآن الذي نزل على قلب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. لا سيما وقد علمت أن إحدى نسخ المصحف الإمام بقيت حتى القرن الثامن الهجري، وأن لدى المكتبات الإسلامية اليوم، مصاحف تعود إلى ما قبل هذا التاريخ.
وهكذا فتاريخ هذا الكتاب سلسلة متصلة، لا تفقد حلقة من حلقاتها، فتثير بفقدانها الظنون والشكوك، وصدق الله العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: ٤١ - ٤٢].