برواية حفص عن أبيه، عن عمه، عن الفضل بن يحيى الأنباري الذي أقام بمكة مجاورا حتى أخذ القراءة عن حفص (١). ولا نعلم مقدار مكث حفص في بغداد ولا مقدار مجاورته في مكة، ولكننا نعلم أنه أقرأ القرآن فيهما، وأنه توفي سنة ١٨٠ هـ- أو بعدها (٢). ويبدو أن تنقل حفص بن سليمان بين الكوفة وبغداد ومكة قد أسهم في انتشار قراءة عاصم من ذلك الزمان، حتى صارت أشهر قراءة للقرآن في العالم الإسلامي كله.
ومن خلال العرض السابق يتبين أن القراءة التي يقرأ بها المسلمون القرآن اليوم هي قراءة عاصم بن أبي النجود برواية تلميذه حفص بن سليمان، وأن أشهر شيوخ عاصم في القراءة أبو عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش اللذان أخذا القراءة عن خمسة من كبار الصحابة: عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب. ورواية حفص تمثل القراءة التي أخذها عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي، فقد قال حفص لعاصم: أبو بكر، يعني شعبة بن عياش، يخالفني في القراءة، فقال عاصم: أقرأتك بما أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، وأقرأته بما أقرأني زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود (٣). مع عدم إغفال أثر ظاهرة الاختيار في قراءته.
ومن خلال العرض السابق أيضا ندرك صحة قول مكي عن قراءة عاصم (٤):
«فقراءته مختارة عند من رأيت من الشيوخ، مقدمة على غيرها، لفصاحة عاصم، ولصحة سندها، وثقة ناقلها» (٥).
(٢) الذهبي: معرفة القراء ١/ ١١٦، وابن الجزري: غاية النهاية ١/ ٢٥٥.
(٣) ابن الجزري: غاية النهاية ١/ ٢٥٤.
(٤) التبصرة ص ٢١٩.
(٥) كان حفص بن سليمان قد اعتنى بقراءة القرآن وتعليمها أكثر من عنايته برواية الحديث، ومن ثم قال عنه يحيى بن معين: هو أصح قراءة من أبي بكر، وأبو بكر أوثق منه في