وما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله له من الأمور الصالحة، فقد كان الغالب عليه بمكة الأمين» (١).
وفي السنة التي بلغ فيها النبي ﷺ الأربعين من عمره بدأ تحول كبير في حياته لم يكن قد تهيأ له من قبل، لكن العناية الإلهية كانت ترعى ذلك التحول وتوجهه نحو النبوة الكاملة التي تنكشف فيها حجب الغيب، ويتنزل الوحي بالقرآن عليه. وكانت أولى مظاهر ذلك التحول أن النبي ﷺ قال لخديجة، رضي الله عنها: «إني أرى ضوءا وأسمع صوتا» (٢). وتتابعت إرهاصات النبوة التي انتهت باللقاء الأول بين رسول الله ﷺ والملك جبريل عليه السّلام الذي حمل الرسالة إليه.
وتقدّم الروايات التاريخية والأحاديث الصحيحة وصفا لبدء نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل البخاري في كتابه الجامع الصحيح، كما جاء في غيره من المصادر المعتمدة تفاصيل ذلك الحدث العظيم عن عائشة، رضي الله عنها، حيث قالت (٣): «كان أوّل ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة (أو الصالحة) في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
قالت: فمكث على ذلك ما شاء الله، وحبّب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه منها، وكان يخلو بغار حراء (٤) فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء.
(٢) رواه الإمام أحمد في المسند (١/ ٣١٢) عن ابن عباس، وينظر: الهيثمي: مجمع الزوائد ٨/ ٢٥٥.
(٣) البخاري: الجامع الصحيح ١/ ٥. وينظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى ١/ ١٩٤، وابن هشام: السيرة النبوية ١/ ٢٣٤، وعبد الرزاق: المصنف ٥/ ٣٢١، وصحيح مسلم بشرح النووي ٢/ ١٩٧.
(٤) حراء: بالمد وكسر الحاء، جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال منها، في أعلاه قمة شامخة، وفيه الغار الذي كان يأوي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.