فلم تتضمن هذه الآية غير الحقوق المتعلقة بالنفوس والوقوع فى شئ من ذلك يوجب إيلامها ودوام عقابها وذلك ظلم لها فأعقبت هذه بقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " انتهى معنى كلامه وفيه ببادئ النظر مناسبة وملاءمة فى النظم.
إلا أن ما تمهد من المطرد فى آى القرآن وما عليه كلام العرب فى الوعد والوعيد يرد ما اعتمده هذا القائل وقد تقدم فى قوله تعالى فى سورة البقرة:

"وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية الآية " ما فيه شفاء فيما ذكرته هنا.
ثم إن الكلام لو كان جاريا على ما قال لبنى عليه اعتراض يلزمه تكميلا لما ألزم نفسه فى هذه الآى من توجيه الوارد فيها من الأوصاف الثلاثة وهو قصره السؤال والجواب على الوصفين من الكفر والظلم وكأن قوله تعالى فى الآية الثالثة بعد: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " غير مناط بما قبله وليس الأمر كذلك فإن المذكورين فى الآى الثلاث قد اجتمعوا فى الحكم بغير ما أنزل الله وقد شملهم ذلك فهم من حيث ذلك صنف واحد ومدار الآى الثلاث إنما هو على فعل يهود المنصوص على حكمهم بغير ما أنزل الله ومخالفتهم منصوص كتابهم فى الرجم وغيره، وما قبل هذه الآى وما بعدها لم يخرج عنهم، فهم أهل الأوصاف الثلاثة وقد نقل المفسرون عن ابن عباس أنه قال: الكافرون والفاسقون والظالمون أهل الكتاب وعن ابن مسعود: هو عام فى اليهود وغيرهم وقال الزمخشرى مشيرا إلى وجه الترتيب فى هذه الأوصاف والمرادون بها فقال: الكافرون والفاسقون والظالمون وصف لهم بالعتو فى كفرهم حين ظلموا بالاستهانة وتمردوا بأن حكمهم بغير ما أنزل الله فجعل الظلم استهانة والفسق تمردا، وقد فسر الفاسقين من قوله تعالى فى آية البقرة: وما يكفر بها إلا الفاسقون بأنهم المتمردون من الكفرة، قلت: جعل الزمخشرى الاستهانة مسيرة ظلمهم ومادته فظلمهم المسبب عنها
بعد حصول كفرهم أشد من الكفر، ثم إن التمرد المعبر عنه فى الآية بالفسق وإن تقدمته الاستهانة وكانت كالمادة فإنه أشد من الاستهانة لأن التمرد تفعل من مرد أى عتا، والتفعل ينبنى علي التعمد والتعمل فتأمل حصول الترقى فى كلامه من أخف إلى أثقل وانسحاب كلامه على الأوصاف الثلاثة من الكفر والظلم والفسق وإن لم يفصح بسؤال ولا جواب وكثيرا ما يعتمده وينقل كلامه من قدمنا مأخذه فى هذه الآى وهو أبو الفضل بن الخطيب ثم أنه عدل عن اعتبار كلامه هنا وارتكب خلافه ولم يستوف توجيه الأوصاف الثلاثة وقصر السؤال على فصل ما بين الكفر والظلم دون الفسق، وأرى ذلك غير ما ينبغى والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon