يحتج هنا إلى تنبيههم بأن ذلك لهم إذ حالهم التذكر ومولااة الاعتبار لا الغفلة، وأخر ذكر ذلك إلى ذكر الرزق ليجري مع قوله في الزينة والطيب من الرزق: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: ٣٢).
أما آية النمل فقد تقدمها قوله تعالى: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل: ٥٩)، فلما تضمنت تعنيفاً للمشركين على سوء مرتكبيهم وعماهم عن التفكير والاعتبار قصد تحريكهم وإيقاظهم من رقدة الغفلة، فقيل: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) (النمل: ٦٠)، فحصل تنبيههم وإعلامهم أن إنزال الماء من السماء إنما هو لهم وأنه لا حاجة به سبحانه إليه، فاستجر الكلام تعنيفهم، ويشهد لهذا قوله تعالى عقب الآية: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل: ٦٠) (أي يعدلون) بربهم غيره ويعدلون بعبادته إلى عبادة غيره، وكل هذا شرك لا فلاح معه، فلما قصد في الآية الثانية ما ذكرنا قدم المجرور، وشأنه أبداً إذا قدم إحراز معنى التنبيه حيث يقصد التحريك والإيقاظ لذي غفلة، أما إذا تأخر فلا يحرز هذا المعنى على الصفة التي يحرزه متقدماً. وتأمل الوارد من هذا في نظائر هذه (الآية) كقوله تعالى: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) (الزخرف: ١٢) خطاباً لمن تقدم ذكره في قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) (العنكبوت: ٦١، وقوله خطاباً لفرعون وملئه: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) (طه: ٥٣) وهذا بعد قول فرعون في إخبار الله تعالى عنه: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى) (طه: ٤٩) إلى قوله: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) (طه: ٥١)، وقد تقدم بيان هذا في قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص: ٤) وما أنشده سيبويه، رحمة الله، من قول الشاعر:
لتقربن قرباً جلديا ما دام فيهن فصيل حيا
الآية الثالثة: غ - قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم: ٣٤) وفي سورة النحل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: ١٨)، فأعقب في الأولى قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) بغير ما أعقب في الثانية، يسأل عن ذلك؟
والجواب عنه، والله أعلم: أن آية إبراهيم تقدمها قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم: ٢٨)، ثم قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) (إبراهيم: ٣٠)، ثم ذكر إنعامه على عباده في قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ