هؤلاء كحال من تقدمهم، كما قال تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) (فاطر: ٤٣) وقوله: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ)، الضمير للمذكر المتقدم وهو هنا القرآن، والمراد بسلوكه في قلوبهم ما تحصل عندهم وقطعوا به من معرفتهم بباهر نظمه، ورفيع إيجازه، وعلى تناسبه، وأنه يفوق كل كلام مع أنه بلسانهم، وقد علموا مع هذا عجزهم عن معارضته مع أنه لم يرد بغير لسانهم ولا بما لا يعرفونه في محاوراتهم، فهذا المراد بسلوكه في قلوبهم، فقد كانوا متيقنين أنه ليس من كلام البشر وبهذا أخبر سبحانه عنهم تسلية لنبيه عليه السلام فقال: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: ٣٣) وبعجزهم عن معارضته قامت الحجة عليهم، ثم امتنعوا من الإيمان بما سبق لهم في الأول (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) (يونس: ٩٦ - ٩٧)، فورد هنا (نسلكه) بلفظ المبهم لأن الإخبار عن كفار قريش ممن استمر على كفره فهو حالهم وقت نزول القرآن وبعده. وقوله: ((نسلكه)) مشعر باستمرار حالهم وموافاتهم على ذلك، وقد تأكد هذا بوصفه بالإجرام وتسجيل حالهم السيء بقوله: ((لايؤمنون))، وأداة لا نافية للمستقبل فناسب هذا لفظ المبهم المضارع.
أما آية الشعراء فقد تقدمها ذكر قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم من الأمم المكذبين، بعد سلوك ما ذكره سبحانه أنه زبر الأولين في قلوبهم، فلما تقدم أمرها أولاً، وانقطعت أومانها، وقعت العبارة بالماضي، فقال تعالى: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ)، ولم يناسب هنا غير الماضي، فقد وضح ورود كل من الموضعين على ما يناسب، ولم يناسب عكس الوارد، والله أعلم.
الآية الرابعة قوله تعالى: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (الحجر: ٣٤ - ٣٥)، وفي سورة ص: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (ص: ٧٨)، للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف العبارتين من ورود اللعنة في سورة الحجر بالألف واللام، وفي ص بالإضافة مع اتحاد المعنى؟
والجواب عنه، والله أعلم: أن آية الحجر وردت بالألف واللام، وهي الأداة المقتضية الحصر الجنسي حيث لا عهد، وذلك وارد على ما ينبغي لما قصد هنا من المبالعة، ولا سؤال فيه. وأما الوارد في سورة ص مضافاً لياء المتكلم فوجهه المناسبة اللفظية لقوله: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (ص: ٧٥)، فجرت العبارتان على منهج واحد ومسلك متناسب، ولم يكن ليتناسب العكس فيما ورد، والله أعلم.