في ذلك إلى كبير تذكر، بل التنبيه على إنزاله بالوارد في الكتاب مع مساهده منافعه كاف في العتبار، وفي إحياء الأرض به بعد موتها أوضح شهادة لإحياء الموتى وإخراجهم لما وعدوا به، فالتحم الكلام، وتناسب النظم والمعنى. وإنما تحصل ثمرة الكتاب المنزل بسماعه، ولذلك نهي المعرضون عنه أتباعهم فقالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (فصلت: ٢٦) وقال في قسم من رحم بسماعه من الجن: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي) (الجن: ١و٢)، وإنما يستجيب سامعه إذا كان غير معرض، فإذا لم يصغ إلى اعتبار ما أعقب به من إنزال السماء، فلهذا الالتحام أعقبت الآية المذكورة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)، والله أعلم.
وأما الآية الثانية فلما وقع فيها ذكر السَّكَر في قوله: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرً) (النحل: ٦٧) وذلك حكم لا يمكن الوصول إلى مرفة سببه ولا تعليله بطريق الحواس، ولا يوصل إلى ذلك بجهة تفكر أو اعتبار، عبر بقوله: (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إذ العقل يسلم إمكان ما لا تعلم له على مما ليس بمحال، فيكون مما ينفرد تعالى بعلمه، ويعجز البشر عن فهمه. وأما الآية الثالثة فمحل ومجال للتفكر ومتسع للاعتبار فناسبه قوله: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
والجواب عن السؤال الثالث: أي قوله: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) (النحل: ٦٦) بإفراد الضمير وتذكيره مراد به الجنس، وقد حكى سيبويه، رحمه الله، أن من العرب من يقول: هو الأنعام، وعليه حمل آية الأنعام في تذكير الضمير، وورد في سورة المؤمنون على التأنيث والجمع لما بني على ذلك من قوله: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (المؤمنون: ٢١ - ٢٢)، فنوسب بضمير الأنعام ما أتبع به من الضمائر في قوله: فيها، ومنها، وعليها. فورد بصورة التأنيث والجمع.
الآية التاسعة من سورة النحل قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (النحل: ٧٠)، وفي سورة الحج: (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) (الحج: ٥)، للسائل أن يسأل عن زيادة ((من)) في قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) وسقوطها من آية النحل مع اتحاد المعنى، هل ذلك لسبب حامل يقتضي زيادتها هنا وسقوطها هناك؟
والجواب: أن سبب ذلك - والله أعلم - التناسب وتشاكل النظم ومراعاة اللفظ ألا ترى إلى تكرر ((من)) في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ


الصفحة التالية
Icon