ضميرهم. قلت: هذا لو لم يكن الالتفات من فصيح كلام العرب، وهو الرجوع عن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب وإلى المتكلم كقوله:
تطاول ليلك بالإثمد ونام الخلي ولم ترقدِ
وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمدِ
وذلك من نبأ جاءني وخبرته عن أبي الأسودِ
فتأمل كيف التفت في قوله: (وبات وباتت له ليلة)) بعد الخطاب بقوله: (تطاول ليلك.. ) ((ولم ترقد))، (فرجع) الخطاب إلى الغيبة. ثم قال: (وذلك من نبأ جاءني) - فرجع إلى المتكلم، وإنما خاطب بكل ذلك نفسه، وفي الكتاب العزيز (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (يونس: ٢٢)، فقوله: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) رجوع من الخطاب إلى الغيبة، وفي الكتاب من ذلك كثير. فإذا تقرر أن الالتفات من فصيح كلامهم فما يمنع من احتمال أن يفهم قوله: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) على أنه راجع إلى المخاطبين بقوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) على طريقة الالتفات رجوعاً من الخطاب إلى الغيبة، فجاء قوله: (وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ) بضمير الغائبين رافعاً لهذا الإبهام وما للمعنى المقصود بالكلام من رجوعه إلى من تقدم ذكره، فهذا موجب ورود هذا الضمير المبتدأ هنا.
أما قوله في سورة العنكبوت: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت: ٦٧)، فكرمهم لا يرجع شيء منه إلى متقدم قبله فيتباعد عنه بل هو مستقل بنفسه، والمعّنيون بوقله: (أَوَلَمْ يَرَوْا) هم المراد (بقوله) (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)، وليست هذه الآية مثل آية النحل فيما إلى ما احتيج هناك، فكل من الآيتين وارد على ما يجب ويناسب، ولا يمكن عكس الوارد على ما تمهد، والله أعلم.
الآية الحادية عشرة: غ - قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: ٧٨)، وفي سورة المؤمنون: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (المؤمنون: ٧٨)، وفي سورة الملك: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (الملك: ٢٣)، فورد في هاتين الآيتين نفي شكرهم على المعروف من هذه العبارة أو تقليله بمقتضى اللفظ، وورد في آية سورة النحل