والجواب عن ذلك أن الأولى مقصود بها بشارة وإنعام لا يشوبه غيره، وقد تبين ذلك، أما الثانية فوارده مورد الزجر والتعنيف لمن لم يؤمن مع البشارة للمؤمنين، ألا ترى ما تقدمها من قوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) (النحل: ١٠١)، فجووبوا عن هذا بقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (النحل: ١٠٢)، أي قل لهم يا محمد هذا الكلام، وورد بعدها: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) (النحل: ١٠٣)، فاكتنف الآية المذكورة ما يفهم التعنيف لهم والوعيد على مرتكبهم، ووضح أن المقصود لم يتحد في الآيتين كما يوهم للبادي من ظاهرهما، وأن زيادة قوله: (ورحمة) في الأولى مناسب لمقصودها من البشارة والإنعام المجرد عن اتصال ما يفهم تعنيفاً أو وعيداً، ولم يكن ورود ذلك ليناسب الوارد في الثانية، فورد في كل على ما يجب، والله أعلم.
الآية الخامسة عشرة قوله تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: ٩٦)، وقال بعد (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: ٩٧)، وفي آية الزمر: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الزمر: ٣٥)، فورد هنا ((الذي)) مكان ((ما) في الآيتين في سورة النحل، فللسائل أن يسأل عن ذلك؟
والجواب عنه، والله أعلم: أن آية النحل الأولى لما افتتحت بما الموصولة في قوله تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ)، والمراد بها الإطلاق والعموم، كانت في هذا الموضوع أولى من لفظ ((الذي)) وإن اشتركا في الموصولية، إلا أن ((الذي)) لا تفارق الموصولية، فهي كأنها أعرق في التعريف من ((ما))، لخروج ((ما)) عن الموصلية من حيث إنها تكون حال اسميتها شرطاً واستفهاماً، ولا يفارقها العموم والإطلاق في هذين الموضعين، ولا الإبهام إذا كانت صفة أو نكرة موصوفة أو تعجباً، وبالجملة فالإطلاق أملك (بها)، وهو هنا مقصود، وأما (الذي) فلا تفارق الموصولية، والعهدية فيها أغلب من الجنسية، فما في الآية أحرز للمقصود منها فوردت فيها، وتكررت في قوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)، ومعنى الحصر والتعميم فيهما واحد، والكلام مراعى فيه معناه، وكأن قد قيل: كل ما عندكم ينفذ وكل ما عند الله باق، ولفظ ((ما)) أجرى هنا من ((الذي)) لما يحرزه من معنى الإطلاق، ولما تقرر من التزامها العموم في الشرط والاستفهام، وأنها لا تمنع الاشتراك حال إبهامها فيما عدا الموضعين.