تضعيف عذاب الآخرة وعذاب القبر، والتضعيف التكثير، فختم هذه الآية بقوله: (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء: ٧٥) أبين شيء، لأن الامتحان عندنا في الشاهد، وإذاقه العذاب إنما تكون من ذي استعلاء وقهر، فيلجأ فيه إلى الناصر إن وجد. وأما قوله في الآية بعد هذا: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (الإسراء: ٨٦)، أي لنرفعن القرآن ونذهبه من الصدور ثم لا تجد وكيلاً يمنعنا عن ذلك، ولا من يقوم بدفعنا عنه، وليس هنا ما يستدعي الانتصار.
(فكل) من هاتين الآيتين على ما يجب ويناسب، ولا يلائم ختام هذه الآية ختام ما قبلها، ولا ما ختمت به الآية قبلها، وذلك بحول الله تعالى.
الآية الرابعة: غ - قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا) (الإسراء: ٩٤)، وفي سورة الكهف: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (الكهف: ٥٥)، فورد في الثانية: (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) ولم يرد في الأولى، فيسأل عن ذلك؟
والجواب، والله أعلم: أن الآية الأولى تقدمها قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الإسراء: ٨٩)، فقوله تعالى مخبراً عن عتاة قريش: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) (الإسراء: ٩٠) إلى الثامنة من مقتراحاتهم، وهي تمنيهم تنزل كتاب يقرؤونه، فبالغوا في شنيع اقتراحاتهم، وتوغلوا في مطالبهم المفصحة باليأس (من) فلاحهم، فحصل من جملة حالهم بعدهم عن الإنابة إلى الإيمان، فلم يكن ذكر الاستغفار ليناسب هنا، لأنه إنما يكون مما (لا) يبلغ الكفر من المعاصي، هذا الغالب في وروده، أما حيث يفصح بالكفر فليس موضع ورود الاستغفار، ولما كان المتقدم قبل آية الكهف لا يبلغ مبلغ الآية المتقدمة في الإفصاح بتمردهم وعتوهم ناسبه ذكر الاستغفار، ألا ترى أن قوله تعالى قبل آية الكهف: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (الكهف: ٥٤)، وليس قوله فيها: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) في قوله في آية الإسراء: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الإسراء: ٨٩)، لأن الجدال لا يلزم منه أن يكون مرتكبه كافراً، وإنما مظنة الجدال التناظر في الطرفين والاحتجاج بمتقابل المذهبين إلى ما يرجع إلى هذا، وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: ١٢٥)، والمراد بذلك ملاطفتهم في الاحتجاج عليهم والصبر والتحمل لما عسى أن يكون منهم.