(فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (التغابن: ٢)، فلما لحظ في قصة عيسى، عليه السلام، عصمته من الرضا بما وقع فيه أتباعه ناسب ذلك نفي صفة الضالين، ممن توهم أنه ممن اتبعه، لتبرأ، عليه السلام، من حالهم كما يتبرأ حين يقول في الآخرة: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) (المائدة: ١١٧)، فقد وضح ورود كل من الوصفين على أجل النظم وأتم المناسبة، وإن عكس الوارد لا يمكن، والله أعلم.
الآية الثانية قوله تعالى: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (مريم: ٣٧)، وفي سورة الزخرف: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (الزخرف: ٦٥)، للسائل أن يسأل عن قوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وقوله في الأخرى: (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وما وجه تخصيص كل آية منهما بما ورج فيها وعن قوله في الأولى: (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وفي الثانية: (مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)؟ فهذان سؤالان.
والجواب عن الأول منها: أن الكفر بالله سبحانه أعظم من كل خطيئة، والذي لا ينفع معه شيء من أعمال البر، فهو أعظم من الظلم، ثم قد يوصف الكافر بالظلم إشارة إلى الصفة اللازمة له من ظلمه نفسه بكفره وشنيع مرتكبه، فيشعر إذ ذاك هذا الوصف إذا ورد تابعاً للكفر ولفظ الكفر منطوق به أو مفهوم من سياق الكلام بزيادة توجب زيادة التنكيل، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) (النساء: ١٦٨)، فقوله في آية سورة مريم: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (مريم: ٣٧) معقب بها قوله تعالى: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (مريم: ٣٤ - ٣٦)، ثم قال: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (مريم: ٣٧)، والمراد اختلافهم في نبي الله عيسى، عليه السلام، حيث قال بعضهم: هو الله، وبعضهم يقول: ابن الله، وبعضهم: ثالث ثلاثه، فهذا اختلافهم، وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، فومهم بالكفر الذي هو ضابط أقوالهم وأم مرتكباتهم، وأخبر باستحقاق الويل لهم لكفرهم من شهود ذلك اليوم الفاضح لهم على رؤوس الأشهاد، وفيه قال تعالى: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (هود: ١٠٣)، وفيه يقول الأشهاد: (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: ١٨)، ثم ذكرهم في آية الزخرف بصفتهم من الظلم اللازم لكفرهم، وليناسب بذلك ما تقدم من وهم من أعتمد غير الله سبحانه، فقرن بمعتمده في العذاب