التناسب في مقاطع الآي وفواصلها، فلم يكن ورود الآيتين في السورتين على غير ما ورد ليناسب، فجاء ذلك على ما يجب من الوجهين المذكورين، والله أعلم بما أراد.
الآية الخامسة من سورة مريم، عليها السلام، قوله تعالى: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) (مريم: ٥٩ - ٦٠)، وفي سورة الفرقان: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان: ٦٨ - ٧٠)، للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: (وَعَمِلَ صَالِحًا) وفي الثانية (وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا)؟ وعن قوله في الأولى في جزائهم (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) (وفي الجزاء في الثانية: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)؟
والجواب: أن الآية الأولى ورد قبلها بعد ذكر المنعم عليهم ومن اهتدى بهديهم قوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: ٥٩)، وهذا قول موجز مجمل، فناسبه الإيجاز في قوله (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا.... ) الآية، فتناسبا في التقابل الإيجازي كما تناسبا أيضاً في الفواصل ومقاطع الآي، وذلك قوله تعالى: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وقوله: (وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، والمسهل من القراء يقول: شيا فيقف الياء المشددة. وأما قوله في آية الفرقان: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان: ٧٠) فإطناب يناسب التفصيل الواقع قبله في قوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ) (الفرقان: ٦٨)، ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)، يريد ما ذكر المتصف بتقوى الله بتركه والتنزه عن مواقعة شيء منه - (يَلْقَ أَثَامًا) (الفرقان: ٦٨)، ثم فسر ما يلقاه (بقوله): (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي يكثر عليه ويزداد (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) (الفرقان: ٦٩ - ٧٠)، فحصل بإزاء مضاعفة العذاب لفاعل ذلك تبديل السيئات بالحسنات إلى الغفران والرحمة، فإيجاز بإيجاز وإطناب بإطناب مناسبة بين الجواب وما جووب به، وكل على ما يجب، ولا يسوغ العكس على ما تمهد، والله أعلم.
****