قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) (الكهف: ٥٧)، وكما ورد قبل آيتي النمل والروم وقوله تعالى: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) (الروم: ٥٢) إلحاقاً لحال المخاطبين بهم في عدم الجدوى عليهم، ناسب ذلك قوله: (إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)، فوضح التناسب في نظام هذه الآي، وإن العكس لا يناسب، والله أعلم.
الآية الرابعة قوله تعالى في إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: ٥٢ - ٥٣)، وفي سورة الشعراء: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء: ٦٩ - ٧٤)، فورد في الأولى: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا) وفي الثانية: (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا)، فيسأل عن زيادة (بل) في الثانية؟ وقد يسأل عن المختلف من حكاية قول إبراهيم، عليه السلام في الأولى: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) (الأنبياء: ٥٢) وفي الثانية: (مَا تَعْبُدُونَ) وظاهر القصة أنها واحدة وقد اختلف المحكي؟
والجواب عن الأول، والله أعلم: أن جوابهم في الموضعين ليس جواباً لسؤال واحد، وإنما ورد (جواباً) لسؤالين، فاختلف بحسبهما، فسؤاله في آية الأنبياء سؤال مطلع على معبوداتهم ما هي؟ بعد أن شاهد عبادتهم لها، ولزومهم إياها، وكيفية صورها. فقال: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) أي ملازمون، فلم يجدوا جواباً إلا اعترافهم بأنها تماثيل مصورة منحوته، والتماثيل ما جعل من الصور مثالاً لغيره ونحي به نحوه، فأقروا بالعجز عن جواب مقنع، واستشعروا ما يلزمهم في عبادة ما يصنعونه بأيديهم، وتقدم وجودهم وجوده، فرجعوا إلى التقليد فوقع جوابهم على ما تقدم.
وأما آية الشعراء فإن سؤال إبراهيم، عليه السلام، إياهم بقوله: (مَا تَعْبُدُونَ) ورد (مورد) سؤال عن ماهية معبوادتهم وكيفيتها، وكأنه، عليه السلام، لم يشاهدها، وعلم أنهم يعبدون ما لايعبد، فسألهم عن ما هيته فجاوبوه: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) فجاوبوه معترفين بماهية معبوداتهم على ما أمرهم عليه، وطابق جوابهم سؤاله، فأردف، عليه السلام، بسؤال آخر، قاصداً تعجيزهم والقطع بهم فقال: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (الشعراء: ٧٢ - ٧٣) أي إذا كانوا هكذا مستبدين غير مفترقين فذلك عذر في عبادتكم إياهم، فلما استشعروا ما يلزمهم عدلوا عن الجواب،