والإنس بهذا النمط، قال تعالى مخبراً عن حالهم في الآخرة: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (فصلت: ٢٩)، فالصفتان من الخسران والسفالة غاية حالة الكافر، ومن كان من الأسفلين فقد خسر خسراناً مبيناً، فلا تضاد بين الصفتين سوى أن السفول لاحق في ذات المسفل، والخسران حقيقة في خارج عنه، فالسفول أبلغ، فقد ما هو لاحق خارجي، وأخر ما لا يتعدى ذات المتصف تكملة وتتمة، إذ هو أبلغ على ما يجب وعلى ما قدمنا من رعي الترتيب، والتسفل (ضد) التّعالي، فورد كل على ما يجب ويناسب، وقيل روعي في آية والصافات مقابلة قولهم: ابنوا له بنياناً، لأنه يفهم منه إرادتهم علو أمرهم بفعلهم ذلك، فقوبلوا بالضد، فجعلوا الأسفلين. قال معناه صاحب الدرة، وهو حسن، والله أعلم.
الآية السادسة قوله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء: ٨٣ - ٨٤)، وفي سورة ص: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (ص: ٤١ - ٤٣)، ففي آية الأنبياء: (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) وفي آية ص: (رَحْمَةً مِنَّا)، وفي آية الأنبياء: (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)، وفي آية ص: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، فيسأل عن الفرق بين الوصفين؟ ووجه الاختصاص؟
والجواب على الجملة، والله أعلم: أنه لما ورد في الأنبياء تلطف أيوب عليه السلام بقوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء: ٨٣)، فلما تلطف في سؤاله، ولم يفصح، عليه السلام، تلطفاً وتضرعاً بعظيم ما أصابه من البلاء إفصاحه في آية ص بقوله: (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (ص: ٤١)، فبني كل (من الأيتين) على ما يباسبه، فقيل جواباً على عظيم تضرعه وتلطفه في قوله: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ما يلائم لطيف هذه الشكوى، وعلى قوله (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) ما يناسب إفصاحه بهذه البلوى، فقيل بناء على الأول: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) (الأنبياء: ٨٤)، وقيل بناء على الثانية: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) (ص: ٤٢)، لما وقع ذكر الشيطان، وأنه السبب في ذلك الامتحان، جووب باستعمال سبب فقيل له: اركض برجلك واغتسل وذلك يذهب عنك ما مسك به الشيطان، وحين لم يذكر، عليه السلام، واسطة جووب برفع ما به بغير واسطة سبب، فقيل جواباً لقوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) (الأنبياء: ٨٤)، وبني على الأول قوله: (رَحْمَةً