تفريط ولا فتور في العبادة، ثم قال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)، ومن أعرض عن اللغو سلم من كل ما يشين دينه، وحصل من هذا وما قبله ترك الممخالفات جملة، ثم قال: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) (المؤمنون: ٤)، وهذه أخت الصلاة، قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: ٥)، وقال بعد: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة: ١١)، وقد حصل بحصول هذه الخصائص ما به وصف المتقون في قوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة: ٥)، فوضح منه أن هذه أخص صفات من أفلح وفاز برضى الله سبحانه، فهذا ما أوجب تخصيص هذه السورة بالإفصاح بهذه الأوصاف الثلاثة.
وأما ما خصت به سورة المعارج - وهو الجواب الثالث - إنه سبحانه لما وصف الإنسان بقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) (المعارج: ١٩)، والهلوع الفزع الشديد يقال هلع بكسر ثانية فهو هلع وهلوع، ثم ذكر سبحانه ما يثمره للإنسان هلعه فقال: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) (المعارج: ٢٠)، والجزع ضد الصبر، (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (المعارج: ٢١) والمنع ضد الإعطاء وكلا الوصفين من الجزع والمنع مذموم، مأمور شرعاً بضدهما من الصبر والإيثار، وقد أثنى سبحانه على الصابرين والمؤثرين، فالهلع من أرذل صفات الإنسان، فذكر تعالى صفات من سلم منه، وأنهم المداومون على صلاتهم، لأن المداومة على الصلاة عنوان على تلقي الأوامر بالقبول والامتثال، ولا يكون ذلك إلا عن يقين صادق، وقد قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ) (طه: ١٣٢)، ومن تيقن أن خالقه تكفل له برزقه أجمل في الطلب، وذهب عنه الجزع، ومن علم الحق في ماله من زكاة مفروضة أو صدقة مندوب إليها لم يكن منوعاً للخير، فإذا اتصف بما ذكر، وكان ذلك عن تصديق يقيني بيوم حسابه، وإشفاق من عذاب ربه وعقابه، ولم يأمن المكر (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف: ٩٩)، فمن كان هكذا فليس بهلوع، فلهذا استثنى من اتصف بهذه الصفات الجليلة عن مسببات الهلع من المنع والجزع، فلهذا وجه تخصيص هذه السورة بالإفصاح بما خصت به من هذه الأوصاف مفحصاً به.
وإنما قلت: مفصحاً به لأن ما ذكر في هذه السورة مما لم يقع به إفصاح في سورة المؤمنون داخل تحت ما ذكر هناك، كما أن ما أفصح به هناك داخل تحت ما ذكر مفصحاً به هنا. ألا ترى أن أفعال المكلفين من الأحكام الخمسة وهي: الواجب والمحظور والمندوب والككروه والمباح، كل ذلك داخل تحت ضابط الأمانة والوفاء بالعهد، ومن